د.نادي شلقامي
مصر تروض النيل: تحويل الانتقادات إلى انتصارات تنموية
في قلب تحديات الموارد المائية، حيث تتشابك الهواجس مع الطموحات، خاضت الدولة المصرية رهانًا جريئًا على المستقبل. بينما كانت سهام الانتقادات تُوجه نحو خططها الطموحة، كانت مصر تعد العدة لاستقبال هدية السماء – زيادة منسوب النيل. لم تكتفِ بالتحضير لمواجهة التغيرات، بل أطلقت عِنانًا لسلسلة من المشروعات العملاقة التي تجاوزت مجرد الحماية لتصل إلى الاستغلال الأمثل.
من استصلاح آلاف الأفدنة التي ستضيف خريطة خضراء جديدة للوطن، إلى بناء مجتمعات عمرانية حديثة يتدفق إليها شريان الحياة، أثبتت هذه المشروعات أنها ليست مجرد خطط على ورق، بل رؤية استراتيجية حكيمة.
اليوم، ومع تصاعد منسوب النهر، تتضح الرؤية بشكل قاطع: مصر ربحت الرهان. المشروعات التي قوبلت بالتشكيك تحولت إلى ضرورة تنموية ملحة، وبرهنت على أن القيادة المصرية لم تكن تستعد للعام الحالي فحسب، بل كانت ترسم خريطة الأجيال القادمة، محوّلة زيادة منسوب النيل إلى قوة دفع هائلة تدعم خطط التنمية الشاملة. هذه ليست مجرد إدارة مياه، بل هي تجسيد لإرادة البناء والعبور إلى المستقبل
برؤية لا تعرف التردد.
وبعدما كانت مياه النيل مهدرة وبعد سنوات من التساؤلات حول عدم استغلالها على الوجه المناسب جاءت رؤية الدولة في خطط التنمية لتفتح الباب لاستغلال مياه النيل وتوظيفها بما يناسب خطط التنمية.
ومن المنتظر أن تشهد الفترة الماضية استغلال أسرع لمياه النيل في مشروعات ضخمة يجرى تدشينها وأخرى سيتم تدشينها في السنوات المقبلة.
وأكدت وزارة الري، أنها تتابع تطورات فيضان نهر النيل لهذا العام، وما ارتبط به من تصرفات أحادية متهورة من جانب إثيوبيا في إدارة سدها غير الشرعي المخالف للقانون الدولي، وهذه الممارسات تفتقر إلى أبسط قواعد المسؤولية والشفافية، وتمثل تهديدا مباشرا لحياة وأمن شعوب دول المصب، كما تكشف بما لا يدع مجالًا للشك زيف الادعاءات الإثيوبية المتكررة بعدم الإضرار بالغير، وتؤكد أنها لا تعدو كونها استغلالا سياسيا للمياه على حساب الأرواح والأمن الإقليمي.
وفيما يتعلق بالموقف المائي بأعالي النيل، تشير البيانات إلى ما يلي:
تنبع مياه نهر النيل من 3 روافد رئيسية هي: النيل الأبيض، النيل الأزرق، ونهر عطبرة، ويأتي فيضان النيل الأزرق خلال الفترة من يوليو وحتى أكتوبر من كل عام، وتبلغ ذروته عادة في شهر أغسطس، وتشير البيانات إلى أن وضع الفيضان للعام عند مصادره الرئيسية لهذا العام أعلى من المتوسط بنحو 25%، إلا أنه أقل من العام الماضي، الذي عُد فيضانا مرتفعا، حتى الآن.
ومن الناحية الفنية، كان من المفترض أن تبدأ إثيوبيا في تخزين المياه بسدها بشكل تدريجي منذ بداية يوليو وحتى نهاية أكتوبر، ثم تقوم بتصريفها بشكل منظم لتوليد الكهرباء على مدار العام، بما يتسق مع ما تدعيه مرارًا بشأن فوائد السد في تنظيم الفيضان وحماية السودان من الغرق وتوفير الكهرباء للشعب الإثيوبي.
وفي نهاية أغسطس، لوحظ أن مشغلي السد الإثيوبي خالفوا القواعد الفنية والعلمية المتعارف عليها، حيث قاموا بتخزين كميات أكبر من المتوقع من مياه الفيضان مع تقليل التصريفات من نحو 280 مليون م3 إلى 110 ملايين م3 يوم 8 سبتمبر 2025، وتدل هذه التصرفات على توجه إثيوبي متعجل نحو إتمام الملء بصورة غير منضبطة، بغرض الوصول إلى منسوب 640 متر فوق سطح البحر، ثم فتح المفيض الأوسط ومفيض الطوارئ لساعات معدودة لاستخدامها فقط كـ لقطة إعلامية، واستعراض سياسي في ما سُمّي باحتفال افتتاح السد يوم 9 سبتمبر 2025، بعيدًا عن أي اعتبار للسلامة المائية أو مصالح دول المصب.
وتأكدت هذه التقديرات بما حدث فعليًا؛ إذ عمد المشغل الإثيوبي عقب انتهاء ما سُمّي بالاحتفال يوم 10 سبتمبر إلى تصريف كميات ضخمة من المياه، بلغت 485 مليون م3 في يوم واحد، تلتها زيادات مفاجئة وغير مبررة في التصريفات وصلت إلى 780 مليون م3 يوم 27 سبتمبر، ثم انخفضت إلى 380 مليون م3 يوم 30 سبتمبر.
وأظهرت التقديرات الخاصة بمناسيب السد الإثيوبي انخفاض المنسوب بما يقارب مترًا واحدًا، وهو ما يعادل تصريف نحو 2 مليار م3 من المياه المخزنة دون مبرر، بخلاف التصرفات الناتجة عن الفيضان نفسه، وهو ما فاقم من كميات المياه المنصرفة وأكد الطبيعة غير المنضبطة والعشوائية لإدارة السد (كما هو موضح بالشكل المرفق).
وأدى التقاء هذه الكميات الكبيرة وغير المتوقعة من المياه في هذا التوقيت من العام، مع تأخر واختلاف مواعيد سقوط الأمطار داخل السودان، إلى جانب ارتفاع إيراد النيل الأبيض عن معدلاته الطبيعية، إلى زيادة مفاجئة في كميات المياه نتج عنها إغراق مساحات من الأراضي الزراعية وغمر العديد من القرى السودانية.
وفي مواجهة هذه الظروف الطارئة، لم يكن أمام مشغلي سد الروصيرص السوداني خيار سوى تخزين جزء بسيط من هذه المياه وتمرير الجزء الأكبر عبر بواباته حفاظًا على أمان السد، نظرًا لمحدودية سعته التخزينية، وبناءً على ذلك ترى وزارة الموارد المائية والري أن ما حدث على النيل الأزرق من إسراع في الملء غير القانوني للسد الإثيوبي، ثم تصريف كميات هائلة من المياه مباشرة بعد ما سُمّي باحتفال افتتاح السد، لم يكن إجراءً اضطراريًا، وإنما يعكس إدارة غير منضبطة وغير مسؤولة لسد بهذا الحجم.
