بقلم السيد عيد
في صباحٍ غائم بالمصالح، قيل إن “الضمير” قدّم استقالته رسميًا.
خرج من مكتبه وهو يحمل حقيبته القديمة، مكتوب عليها بخطٍّ باهت: “عملتُ ما بوسعي، لكنهم لم يعودوا يسمعون.”
حاول بعض الناس منعه قائلين:
– “ابقَ معنا، ما زلنا نحتاجك! فابتسم بأسى وقال: “تحتاجونني في الخُطب لا في الأفعال.”
جلس الضمير على مقعدٍ في الحديقة العامة، يطعم العصافير التي لم تصوّت في الانتخابات، ولم تكذب في نشر الأخبار.
نظر حوله، فوجد اللافتات تملأ الشوارع: “الأمانة أولاً”، “الصدق شعارنا”،
فضحك وقال:
“عجيب أمر البشر، يعلّقونني على الجدران لأنهم لم يجدوني في القلوب.”
في المساء، حاول العودة إلى عمله القديم، لكن الحارس منعه قائلًا: “آسف يا سيدي، الوظيفة أصبحت آلية، نحن نستعمل تطبيقًا جديدًا اسمه ضمير ذكي! يحذّرنا إذا تجاوزنا الخطوط الحمراء.”سأل الضمير بدهشة: “وهل ينجح؟”
قال الحارس مبتسمًا: “نجح في كتم صوته عندما يزعجنا.”
عندها أدرك الضمير أنه لم يعد مرحّبًا به في زمنٍ تُقاس فيه الأخلاق بعدد الإعجابات،وتُقاس القيم بما يُرضي الجمهور لا بما يُرضي الله.
وقبل أن يرحل، كتب على ورقة صغيرة وعلّقها على باب المدينة: “حين تحتاجونني حقًا، ابحثوا عني في عيون الأطفال… فهم آخر من يعرف الصواب دون أن يقرأه.”
فالأطفال لا يتظاهرون بالطيبة، ولا يُتقنون فنون المراوغة.
يبكون إذا حزنوا، ويضحكون إذا فرحوا،
لا يضعون الأقنعة عند اللقاء، ولا يخلعونها عند النوم.
هم الكائنات الوحيدة التي لم تُصاب بعدُ بعدوى التبرير،
ولم يتعلموا كيف يجمّلون القبح بكلمة “ظروف”.
لكن حين يكبرون،
تبدأ عملية “تطعيم” أخلاقية غريبة:
تُزرع فيهم جرعة من المجاملة، وأخرى من المصلحة،
ويُقال لهم إن الصراحة وقاحة، وإن السكوت حكمة،
حتى يُصبحوا نسخًا متشابهة من الكبار الذين فقدوا البوصلة،ثم يشكون من غياب البراءة التي اغتالوها بأيديهم.
ولذا كتب الضمير في آخر الورقة قبل أن يختفي:”احذروا أن تُربّوا أبناءكم على الخوف من الخطأ، لأنهم إن خافوا منه أكثر مما خافوا من الكذب، فأنتم من أغلق الباب في وجهي… إلى الأبد.”
