فوضى المصطلحات: حين تصبح المفاهيم أدوات للصراع

نور محمد
تلعب المصطلحات الفكرية والسياسية دورًا محوريًا في تشكيل الوعي الجمعي وتوجيه مسارات الفكر البشري. غير أن هذه المصطلحات ليست محايدة، بل كثيرًا ما تتحول إلى أدوات للصراع الإيديولوجي، إذ تُستخدم بطرق انتقائية، مشوهة أحيانًا، لخدمة أجندات معينة.
على سبيل المثال، يتم الترويج لليبرالية بوصفها الحرية المطلقة، متجاهلين حقيقة أن أي حرية غير مقيدة بقوانين وضوابط تتحول إلى فوضى. في المقابل، يُنظر إلى الإمبريالية باعتبارها مجرد استعمار مباشر، بينما تتجلى اليوم في صور أكثر تعقيدًا، مثل السيطرة الاقتصادية والثقافية، دون الحاجة إلى احتلال عسكري. أما الديمقراطية، التي يفترض أنها تعني “حكم الشعب لنفسه”، فقد أصبحت في كثير من الأحيان غطاءً لمصالح الطبقات المسيطرة، سواء كانت أرستقراطية أو برجوازية، مما يعيد إنتاج التفاوت الطبقي بوجوه جديدة.
إن المصطلحات العلمية والفلسفية، كالميتافيزيقيا (ما وراء الطبيعة)، والأبستمولوجيا (علم المعرفة)، والسيميائية (علم العلامات)، تبدو أحيانًا كأنها مغلقة على المختصين، مما يجعلها عرضة للاستغلال من قبل النخب التكنوقراطية التي تدّعي احتكار الفهم، فتتحول التكنوقراطية نفسها إلى شكل من أشكال الحكم الاستبدادي المغلف بمسحة علمية.
وعلى صعيد الفكر الديني والسياسي، نجد أن العلمانية تُصوَّر أحيانًا كعداء للدين، رغم أن جوهرها يقوم على فصل الدين عن الدولة لا عن المجتمع. أما البلشفية، التي تعني في الأصل “الأغلبية”، فقد ارتبطت بالثورة الشيوعية التي ادّعت تمثيل البروليتاريا (طبقة العمال الكادحين)، بينما انتهت إلى حكم الحزب الواحد.
هذه الفوضى في استخدام المصطلحات تخلق حالة من الالتباس الفكري، حيث تُستخدم الكلمات كسلاح في المعارك الأيديولوجية بدلاً من أن تكون أداة للفهم والتفاهم. وهنا تبرز أهمية المنطق والديالكتيكية (فن الجدل) في إعادة ضبط المفاهيم، بعيدًا عن التوظيف الدعائي أو التلاعب السياسي.
إن الوعي بهذه المصطلحات، ومعرفة أصولها وتطورها، ليس مجرد ترف فكري، بل ضرورة لفهم ما يدور حولنا من صراعات فكرية وسياسية، حتى لا نظل أسرى لعبارات رنانة تُستخدم لإخفاء الحقيقة أكثر مما تكشفها.