بقلم د.نادي شلقامي
في قلب ريف المنيا الهادئ، حيث ينساب النيل كشريان حياة بين الأراضي الخضراء، كانت تقف “العتَّاقة” (المنزل القديم الكبير) الخاصة بعائلة “أبو مندور”. هنا، لم يكن السند مجرد كلمة، بل هو اسم لـ “فارس”، الأخ الأكبر لابن عمه “عز الدين”.
فارس، شاب قروي قوي البنية، سمرته الشمس فأعطته صلابة الأرض، وعيناه تحملان هموم وسكينة النيل. بعد وفاة والديهما بفاصل زمني قصير، وجد فارس نفسه مسؤولاً ليس فقط عن زراعة الأفدنة القليلة التي تركها أبوه، بل عن رعاية عز الدين الذي كان لا يزال طالباً نجيباً في المرحلة الثانوية.
لم يكن عز الدين بقوة أخيه، كان أنحف وأكثر هدوءاً، يميل إلى الكتب والأرقام أكثر من حراثة الأرض. حلم فارس الكبير لم يكن توسيع “العتَّاقة”، بل أن يصبح عز الدين “باشمهندس” (مهندساً) يرفع رأس العائلة في القرية.
في أحد مواسم الفيضان، جاءت المحنة. ارتفع منسوب المياه بشكل غير متوقع، وهددت مياه النيل أن تجرف جزءاً كبيراً من أرضهم الزراعية. فقدان الأرض يعني انهيار الحلم، وتوقف دراسة عز الدين.
هرول أهل القرية إلى أرضهم ليقيموا “جسر حماية” من الطين والقش. كان فارس في المقدمة، يعمل بعرق جبينه، ينقل أكياس الرمل الثقيلة التي يكاد ظهر الرجل القوي ينحني تحتها.
رأى عز الدين أخاه، وقد شق التعب وجهه، وارتجفت يداه من الإجهاد. تذكّر عبارة جدتهما القديمة: “الأخ سند، والضهر اللي ما ينحنيش”. لكن ضهر فارس كان على وشك أن ينحني.
ركض عز الدين مسرعاً إلى البيت. لم يأتِ بأكياس رمل، بل عاد حاملاً “الشيكارة” (حقيبة القماش الكبيرة) التي كان يضع فيها كتبه وملازمه الدراسية. وضعها جانباً، وأمسك بـ “الكوريك” (المجرفة) بكلتا يديه، وبدأ يملأ الطين والرمل، وإن كان ببطء وتردد.
لاحظ فارس وجوده، فصاح به: “يا ولد، أنت مكانك في الكتب، مش في الوحل ده! روح يا عز، ما ينفعش تتوسخ كده!”
أجاب عز الدين، وعيناه لا تفارقان التراب: “يا أخوي، أنت بتقول دايماً إنك سندي.. وأنا بقولك، إنت مش لوحدك. الكتب مستنية، بس الأرض لو راحت، مش هينفع نقرا فيها تاني. كتفي الصغير مش قد كتفك، بس حجر على حجر يبني الجدار يا فارس.”
توقَّف فارس عن العمل للحظة، نظر إلى عز الدين الذي كان يحاول جاهداً رفع كيس مملوء بالرمل، وجهه محمر من المجهود، لكن الإصرار يملؤه. أدرك أن سند الأخ لا يقتصر على القوة الجسدية، بل في وقوفه بجانبك عندما تكون على وشك الانهيار. لم يكن عز الدين عوناً بعضلاته، بل برفضه أن يرى أخاه يُكسر.
لم يقل فارس شيئاً، لكنه ابتسم تلك الابتسامة المجهدة الدافئة التي نادراً ما كانت تظهر على وجهه. وضع يده على كتف عز الدين، لم يكن ليمنعه هذه المرة. عمل الأخوان جنباً إلى جنب. وعندما انتهى الفيضان، ونجا جزء كبير من الأرض بفضل “جدار النيل” الذي أقامه أهل القرية، جلس فارس وعز الدين على ضفة النيل، يغسلان أيديهما من الطين.
التفت فارس إلى أخيه، وقال بصوت خفيض: “يا عز، أنا كنت عايزك تكون باشمهندس قوي بعقلك، عشان أنا مش هفضل طول العمر قوي بضهري.”
رد عز الدين وهو يمسح على كتف فارس: “وأنا يا أخوي هكون الباشمهندس اللي يسند ضهرك لما يتعب، ويجيبلك حقك بالقانون لو اتلعب. مش كل سند لازم يكون له نفس العضلات.”
شعر فارس بأن تعب السنين قد زال. لم يعد يشعر بأنه وحده يحمل عبء العائلة. أدرك أن السند الحقيقي ليس فقط من يقوّي عضدك، بل من يشاركك همّك، حتى لو كان بجهد بسيط وصادق. في تلك اللحظة، لم يعد فارس مجرد “جدار النيل”، بل أصبحا هما الاثنان جدار العائلة، يداً بيد.
مرت السنوات في ريف المنيا على إيقاع بطيء، لكنها كانت سريعة ومثمرة على عز الدين. لم ينسَ عز الدين أبداً منظر أخيه فارس وهو يصارع الطين والفيضان بظهر يكاد ينكسر، ومنذ ذلك اليوم، تضاعف إصراره على الدراسة. لم يعد يرى الكتاب وسيلة للنجاة لنفسه فقط، بل هو الجدار الجديد الذي سيُسند به أخاه.
كان فارس يعود من الحقل منهكاً، فيجد عز الدين مستغرقاً في خرائطه الهندسية وكتبه. كان يكفيه أن يرى مصباح الجاز يضيء في زاوية “العتَّاقة”، وصوت القلم يخدش الورق، لينام وهو يشعر بالسكينة. كان يهمس لنفسه: “يا رب، قوِّيه بالعلم، زي ما قويتني بالصبر.”
وجاء اليوم الموعود الذي طالما انتظره فارس. تخرج عز الدين من كلية الهندسة في جامعة المنيا بتقدير امتياز.
في يوم التكريم، وقف فارس، بجلبابه النظيف وبشرته التي لوّحتها الشمس، كأنه عمود من أعمدة النيل، يحمل باقة ورد بسيطة اشتراها من أول سوق مر به. لم يكن يعرف شيئاً عن الألقاب الأكاديمية أو التفاصيل الجامعية، لكنه كان يعرف جيداً معنى الكفاح.
عندما نودي على اسم “المهندس عز الدين مندور”، وصعد الشاب النحيف الذي ارتدى رداء التخرج الأسود، وشعر فارس بأن قلبه يتسابق مع تصفيق الحضور. لم يتمالك فارس نفسه، ففاضت عيناه بدموع حارة، لم تكن دموع حزن، بل دموع قطفت ثمار صبر سنوات طويلة.
توجه عز الدين مباشرة نحو فارس، واحتضنه بقوة، دافناً رأسه في صدر أخيه. قال له عز الدين بهمس: “الشهادة دي لك يا أخوي، أنت اللي زرعتني وسقيتني لحد ما طرحت.”
أمسك فارس بكفي عز الدين الناعمتين، اللتين لم تتشقق بعد من قسوة الأرض، وقال بفخر يعادل ملك الدنيا:
> “يا عز، أنا كنت سندك بضهري… لكن النهاردة، أنت اللي سندت ضهري. أنت ما بقتش باشمهندس العيلة بس، أنت بقيت الباشمهندس اللي رفع راس كل اللي تعبوا عشانه. الضهر اللي كنت خايف عليه ينكسر، إنت اللي شديته ورفعته.”
لم يمضِ وقت طويل، وعاد عز الدين إلى قريته ليطبق علمه. اكتشف أن الأرض التي كافح فارس للحفاظ عليها كانت تروى بطرق بدائية تهدر الماء. وضع عز الدين تصميماً مبتكراً لـ “ترعة” صغيرة مغطاة، ونظام ري حديث، مستخدماً خبرته الهندسية لزيادة المحصول وتقليل الجهد على أخيه.
لم تعد مشكلة الفيضان تقض مضاجعهم. عز الدين، بصفته مهندساً، قام بتخطيط وتثبيت الجسر الخرساني الصغير الذي يحمي الأرض بشكل دائم، ليصبح “جدار النيل” حصناً لا يهتز.
في أحد أيام الحصاد، كان فارس وعز الدين يجلسان في “العتَّاقة”. سحب عز الدين مجموعة من الأوراق والخرائط الرسمية، وقال لأخيه: “يا أخوي فارس، أنا دلوقتي سندك… بس مش بالعضلات، أنا سندك بالعقل والعلم، اللي بيخلي الضهر ميرجعش يتعب تاني.”
أدرك فارس أن السند الحقيقي لا يقتصر على المواساة في الشدة، بل في بناء مستقبل يحمي الأخ من الوصول إلى تلك الشدة أصلاً. كانت هذه هي فرحة فارس الكبرى: أن السند الذي أعطاه قد عاد إليه كقوة مضاعفة، وبصيرة تحافظ على الجدار الذي لم يكن يميل يوماً.
