بقلم… أحمد رشدي
لم أكن أؤمن يومًا بالأشباح،
كنتُ أضحك ساخرًا حين يحدّثني أحدهم عن الأرواح التي تعود بعد الموت،
كنتُ أظن أن الخوف صنيعة الخيال، وأن الرعب يسكن العقول الضعيفة فقط،
حتى سكنتُ هذا البيت.
كان البيت صغيرًا على أطراف المدينة، منزلاً قديمًا تتدلّى من جدرانه آثار الزمن، اشتريته بعد أن ضاقت بي المدينة وضجيجها، أردتُ عزلة أعيش فيها بسلامٍ بعد أن خذلتني الحياة بكل وجوهها.
في البداية بدا كل شيء طبيعيًا، الهدوء كان يلف المكان كغطاءٍ من سكونٍ وطمأنينة،
لكن مع مرور الأيام بدأتُ أشعر أن هذا السكون ليس طبيعيًا، كأنّه يخفي تحته شيئًا ينتظر اللحظة المناسبة ليطلّ برأسه.
ليالٍ كثيرة كنت أسمع فيها حفيفًا غريبًا في الممرّ، كأن أحدهم يمرّ بخطواتٍ حذرةٍ لا تريد أن تُسمَع،
كنت أنهض من فراشي، أنظر حولي، فلا أجد شيئًا، أعود فأسمع الهمس من جديد، همسًا أنثويًّا خافتًا يشبه التنفّس حين يمتزج بالحزن.
كنت أقول لنفسي إن الوحدة تُخرّف العقول، وإن الخيال هو من يصنع كل هذا، لكنّ الخيال لا يترك وردةً على منضدة غرفتي وأنا نائم، ولا يفتح النوافذ التي أغلقتها بيدي قبل دقائق.
في إحدى الليالي، وبينما كنت جالسًا أقرأ، شعرتُ بأنّ أحدًا يقف خلفي، شعورٌ صريح، كأنّ أنفاسه تلامس عنقي، التفتُّ بسرعةٍ، فلم أرَ شيئًا، لكنّي شممتُ رائحةً مألوفة، عطرٌ ناعمٌ خفيف كنت أعرفه جيّدًا، كان عطرها.
ارتجف قلبي،
لا لأنّي خائف، بل لأنّي تذكّرت.
كانت “سارة” حبيبتي،
زوجتي التي فقدتها منذ عامين بعد صراعٍ طويلٍ مع المرض، كنتُ أظن أنّ رحيلها أنهى كل شيء، لكن يبدو أنّ الحُبّ لا يموت حين يموت الجسد.
في تلك الليلة لم أنم، أمسكت قلمي حاولت كتابة أي شيئ.. لم أستطع ،
جلستُ أراقب الجدران، أترقّب أيّ حركة، حتى رأيت ظلًّا يمرّ ببطءٍ على الحائط، ظلّ أنثى، له ملامحها، له انحناءة كتفها نفسها.
ارتجف القلم في يدي وسقط.
قلتُ بصوتٍ مرتجف:
“سارة؟”
لم يجبني أحد،
لكنّ النافذة انفتحت ببطءٍ كأنّ يدًا خفيّةً دفعتها، ودخل الهواء البارد يحمل معه همسًا رقيقًا كالبكاء، همسًا يشبه صوتها حين كانت تخبرني في مرضها أنها تخاف أن تتركني وحيدًا.
بدأت الليالي تزداد غرابة، كلّ مساءٍ أسمع خُطىً في الممرّ، وأشعر بلمسةٍ على كتفي، وأرى انعكاس ظلّها في المرآة خلفي. لم أعد أفرّق بين الخوف والحنين،
بين الرعب والاشتياق.
كنتُ أريدها أن تظهر، أن تتحدّث، أن أراها للحظةٍ واحدةٍ فقط، ولو كلّفني ذلك عقلي.
وذات ليلةٍ،
بينما المطر يقرع النوافذ كأنّه يبكي معي، رأيتُها.
كانت تقف عند باب الغرفة، شاحبة الوجه، بيضاء كالضوء، عيناها تلمعان بالحزن، وابتسامتها كما هي، تلك الابتسامة التي كنتُ أراها قبل أن تنام على صدري لتقول بصوتٍ متعب: “عدني أن لا تتركني وحدي”
لم أتحرّك، لم أستطع.
اقتربتْ بخطواتٍ خفيفةٍ،
وجلستْ على الكرسي المقابل،
وقالت بصوتٍ يشبه الريح حين تمرّ فوق الماء:
“ألم أقل لك إنّني لن أتركك؟”
انهمرت دموعي بلا إرادة،
أردتُ أن ألمسها،
أن أضمّها،
لكن يدي مرّت من خلالها كأنّها هواء.
ابتسمت وقالت: “لا تبكِ، لقد عدتُ فقط لأطمئن أنّك بخير… كنتُ هنا دائمًا، لكنّك لم تشعر بي إلا حين صرتَ حزينًا مثلي”
ثم نهضت ببطءٍ واتجهت نحو النافذة، وقالت بهدوءٍ كمن يسلّم على حياةٍ مضت:
“سأرحل الآن،
المكان لك وحدك… وإن اشتقتَ لي،
انظر إلى القمر،
فأنا هناك، بين الضوء والغياب”
ثم اختفت.
اختفت كما جاءَت، دون أثرٍ سوى عبيرها القديم ورجفةٍ لم تفارقني حتى الآن.
ومنذ تلك الليلة، لم أعد أستغرب أن يفتح الباب من تلقاء نفسه، أو أن تُزهِر الوردة على الطاولة دون ماء، لأنّي صرتُ أعرف أنّ الحبّ حين يكون صادقًا لا يرحل،
بل يتحوّل إلى شبحٍ حزينٍ
يرفض أن يبتعد عن
قلبٍ أحبّه أكثر
من الحياة …
