نجده محمد رضا
في صفحات التاريخ تبرز أسماء قليلة خُلّدت بحروف من نور، لما قدمته من بطولات وعظمة في الدفاع عن العقيدة والوطن
ومن بين هؤلاء العظماء يسطع نجم السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي، القائد الذي جمع بين الشجاعة والرحمة، والسياسة والحكمة، ليصبح رمزًا خالدًا في ذاكرة الأمة الإسلامية والعالم بأسره.
مولده ونشأته
وُلِد صلاح الدين الأيوبي في مدينة تكريت بالعراق سنة 532 هـ / 1138 م، في أسرة كردية عُرفت بالشجاعة والولاء للإسلام. نشأ في كنف والده نجم الدين أيوب، أحد قادة الدولة الزنكية، وتلقى تعليمه الديني والعسكري في دمشق، حيث تأثر بعلمائها وأمرائها، فانبثقت في نفسه فكرة الجهاد في سبيل الله وتحرير الأراضي الإسلامية من أيدي الصليبيين.
طريقه إلى المجد والقيادة
بدأ صلاح الدين حياته العسكرية تحت راية نور الدين زنكي، الذي رأى فيه الشجاعة والدهاء، فأرسله إلى مصر مع عمه أسد الدين شيركوه لمساندة الفاطميين ضد الصليبيين. وبعد وفاة عمه، تولى صلاح الدين الوزارة في مصر عام 564 هـ / 1169 م، فعمل على توحيد صفوف المسلمين، وألغى الخلافة الفاطمية الشيعية، وأعاد مصر إلى تبعية الخلافة العباسية السنية، لتبدأ مرحلة جديدة من القوة والوحدة الإسلامية.
توحيد الأمة الإسلامية
أدرك صلاح الدين أن النصر على الصليبيين لا يتحقق إلا بتوحيد كلمة المسلمين، فبدأ بإخضاع الشام والجزيرة واليمن والحجاز لحكمه، حتى وحّد الجبهة الإسلامية تحت راية واحدة.
لم يكن فتحه بالسيف وحده، بل بالعدل والإصلاح والرحمة، حيث نشر الأمن، وأقام العدل، وأعاد هيبة الدولة الإسلامية بعد قرنٍ من الانقسام والضعف.
معركة حطين… يوم الفرقان
وفي عام 583 هـ / 1187 م، وقعت المعركة التي غيّرت وجه التاريخ: معركة حطين.
قاد صلاح الدين جيشًا موحّدًا من المسلمين ضد جيوش الصليبيين بقيادة “غي دي لوزينيان” ملك القدس، وحقق نصرًا ساحقًا، حتى امتلأت أرض حطين برايات النصر ورايات الإسلام.
وبعدها بأشهر قليلة، دخل القدس فاتحًا في يوم 27 رجب 583 هـ، بعد ثمانيةٍ وثمانين عامًا من الاحتلال الصليبي، ليُعيد للأمة مجدها وللمسجد الأقصى مكانته.
تسامح يفوق الخيال
حين دخل صلاح الدين القدس، لم يرفع السيوف انتقامًا، بل رفع راية التسامح، فأمّن المدنيين، وسمح للمسيحيين بمغادرة المدينة بسلام مقابل فدية رمزية، وأمر بحماية الكنائس وعدم التعرض لرجال الدين.
وهكذا، كتب التاريخ اسمه كقائدٍ لم يعرف القسوة، بل جمع بين النصر والإنسانية في آنٍ واحد.
صفاته وإنسانيته
كان صلاح الدين إنسانًا زاهدًا في الدنيا، متواضعًا في الحكم، كريمًا مع الفقراء والجنود، عابدًا في الليل، حازمًا في النهار.
ورغم حكمه لبلادٍ واسعة وغنية، فإنه لم يترك بعد وفاته سوى دينار واحد وعدة دراهم، مما يعكس إخلاصه وزهده ووفاءه لله قبل أي شيء.
نظرة الغرب إليه… عدو أم فارس نبيل؟
الغريب في قصة صلاح الدين، أنه نال احترام أعدائه قبل أصدقائه.
فقد وصفه مؤرخو أوروبا بأنه “الفارس الشريف”، حتى أطلق عليه البعض لقب “الملك العادل” لما رأوه من نُبل خلقه وعدله في التعامل مع الأسرى.
ورغم الصراعات الدموية بين المسلمين والصليبيين، فإن الملك ريتشارد قلب الأسد، قائد الحملة الصليبية الثالثة، كان يكنّ لصلاح الدين احترامًا كبيرًا، حتى أنه أرسل إليه طبيبه الخاص حين مرض، وردّ له صلاح الدين الجميل بإرسال فواكه طازجة وخيول عند مرض ريتشارد.
هذا الاحترام المتبادل بين عدوين في ساحة القتال لم يكن سوى دليل على أن القيم الفروسية والإنسانية كانت جزءًا أصيلًا من شخصية صلاح الدين، الذي رأى فيه الغرب نموذجًا للقائد الشريف النادر في التاريخ.
وفاته وإرثه العظيم
توفي السلطان صلاح الدين الأيوبي في دمشق سنة 589 هـ / 1193 م، عن عمرٍ ناهز الخامسة والخمسين عامًا، بعد حياةٍ مليئة بالجهاد والبذل والعطاء.
ودُفن في المدرسة العزيزية بجوار الجامع الأموي، ليبقى قبره شاهدًا على رجلٍ لم يمت في قلوب المسلمين أبدًا.
إرث لا يزول
سيبقى صلاح الدين الأيوبي رمزًا خالدًا للعزة الإسلامية والبطولة الإنسانية.
لم يكن محرر القدس فقط، بل كان صوت العدالة والرحمة في زمنٍ مضطرب، وقائدًا صنع من الإيمان سلاحًا، ومن العدل راية، ومن التسامح طريقًا إلى النصر.
هكذا علّمنا التاريخ أن النصر لا يولد من الكراهية، بل من الإيمان، وأن المجد لا يُبنى بالقوة وحدها، بل بالعدل الذي لا يموت.
