بقلم د.نادي شلقامي
في عصر أصبح فيه الهاتف الذكي امتدادًا لأيدينا، تحوّلت مواقع التواصل الاجتماعي إلى ساحة مزدحمة بالصور المثالية والنصائح المتدفقة. لكن، هل هذا الفيض الرقمي يقدم الدعم، أم يزيد العبء على أولئك الذين يعانون أصلاً من هشاشة صحية؟ بالنسبة للفئات الأكثر عرضة للمخاطر – كالحوامل، ومرضى السرطان، والفشل الكلوي، ومُتَعافي الجلطات الدماغية – فإن الاستخدام المطول لهذه المنصات يتجاوز تضييع الوقت ليصبح عامل خطر يهدد استقرارهم النفسي والجسدي. فبين ضغوط المقارنة غير الواقعية وإجهاد العقل المُتضرر، تتكشف الحاجة المُلحة لإعادة تقييم العلاقة بين الشاشة وصحة المريض.
إليك تحليل مفصل لتأثير الاستخدام المطول لمواقع التواصل الاجتماعي على الفئات المذكورة:
أولا… تأثير الاستخدام المطول على الحوامل
الجانب الأكثر بروزاً في تأثير الاستخدام المطول على الحوامل هو الجانب النفسي والاجتماعي.
1-زيادة الضغوط النفسية والمقارنات غير الواقعية:
1-1- تعرض منصات التواصل الاجتماعي صورًا نمطية غير واقعية للحمل والأمومة (مثل جلسات التصوير الاحترافية، والظهور بابتسامات هادئة وأجسام متناسقة).
1-2- هذه الصور تخلق فخ المقارنات اللانهائية لدى الحوامل، سواء من حيث الأعراض الجسدية (حجم البطن، وزن الجسم، نقاء البشرة) أو مدى “سعادة” التجربة.
1-3- الشعور بأن الحمل يجب أن يكون “مثالياً وخالياً من المتاعب” يؤدي إلى تفاقم الضغوط النفسية الموجودة أصلاً بسبب التغيرات الهرمونية والجسدية.
2- القلق والاكتئاب وزيادة مخاطر الإجهاض:
— خبراء يحذرون من أن المقارنة المستمرة والضغوط النفسية الناتجة عن محاولة التماشي مع الصور النمطية قد تؤدي إلى القلق والإحساس بالذنب وتفاقم احتمالية الإصابة بالاكتئاب أثناء الحمل، والذي قد يرتبط في بعض الحالات بزيادة مخاطر بعض المضاعفات ومنها الإجهاض (في حالات الضغط النفسي الشديد).
3- نشر معلومات غير موثوقة:
— قد تقع الحوامل ضحية للمعلومات الطبية والمشورة غير الموثوقة المنتشرة على الإنترنت، مما قد يؤثر سلبًا على قراراتهن الصحية.
ثانيا….. تأثير الاستخدام المطول على مرضى السرطان
التأثير هنا يمكن أن يكون مزدوجاً، يتضمن الإيجابيات (خاصة في مجموعات الدعم) والسلبيات (الضيق النفسي والمقارنات).
1- المخاطر النفسية والاجتماعية (السلبية):
1-1- المقارنة: قد يشاهد المريض منشورات لأشخاص مصابين بنفس المرض يظهرون بصحة جيدة أو يمارسون أنشطة صعبة، مما يجعله يشعر بالإحباط والقلق أو يزيد من الضيق النفسي (Distress) لأنه قد لا يستطيع القيام بنفس الأشياء. هذه المنشورات غالباً ما تكون “منسقة بعناية” ولا تمثل حقيقة معاناتهم.
1-2- العزلة والوحدة: رغم أن مواقع التواصل هدفها التواصل، إلا أن الاستخدام المفرط قد يزيد من الشعور بالعزلة عن الواقع الفعلي.
1-3- جودة المعلومات: التعرض لمعلومات طبية غير دقيقة أو مضللة عن العلاج أو التشخيص قد يزيد من القلق ويدفع المريض لاتخاذ قرارات غير سليمة طبياً.
2- الفوائد المحتملة (الإيجابية):
2-1- الدعم الاجتماعي وتحسين المزاج: مجموعات الدعم لمرضى السرطان على مواقع التواصل يمكن أن تكون عاملاً لتحسين الحالة المزاجية، وتوفير شعور بالانتماء والتفاهم، وتقليل الإحساس بالوصم.
2-2- الحصول على المعلومات: استخدام الإنترنت ووسائل التواصل للحصول على معلومات موثوقة ودعم يمكن أن يساعد في إدارة المرض، وقد يشعر المرضى بثقة أكبر في المعلومات المتاحة عبر الإنترنت مقارنة بأي مصدر آخر. (لكن يجب التأكيد على أهمية المصادر الموثوقة).
ثالثا….. تأثير الاستخدام المطول على مرضى الفشل الكلوي
تحديات مرضى الفشل الكلوي غالباً ما تكون جسدية وعلاجية (مثل الغسيل الكلوي)، والتأثير يكمن في كيفية تعاملهم مع هذه التحديات.
1- المخاطر النفسية والعزلة:
1-1- مرضى الفشل الكلوي يعيشون مع تغييرات فارقة في حياتهم وروتينهم اليومي (مثل جلسات الغسيل الكلوي). الاستخدام المفرط قد يؤدي إلى:
1-2- الاكتئاب والقلق: نتيجة لشعورهم بفقدان السيطرة على حياتهم أو انعزالهم عن الأنشطة الاجتماعية الواقعية بسبب وقت العلاج الطويل.
1-3-تفاقم العزلة الاجتماعية: بدلاً من الاندماج في مجموعات دعم واقعية أو الحفاظ على روتين يومي، قد يلجأ المريض إلى العزلة خلف الشاشات، مما يزيد من شعوره بالوحدة.
2- تجاهل الأنشطة البدنية والروتين اليومي:
— قد يفضل المريض قضاء وقت طويل على الإنترنت بدلاً من ممارسة الأنشطة البدنية المعتدلة أو الحفاظ على روتينه اليومي وعمله (إذا سمحت حالته)، وهو ما ينصح به للتكيف مع الإرهاق والتوتر النفسي المصاحب للمرض.
3- التشتت عن أهمية الالتزام الطبي:
— قد يؤدي البحث عن معلومات أو “حلول سريعة” على وسائل التواصل الاجتماعي إلى التشكيك في العلاج المقدم (الغسيل الكلوي أو الأدوية) أو عدم الالتزام بالحمية الغذائية الصارمة المطلوبة، مما يهدد استقرار حالتهم الصحية.
4- الفوائد المحتملة:
— القدرة على التواصل مع مجموعات دعم خاصة بالمرضى للمشاركة في تجاربهم والحصول على دعم عاطفي خاص بظروفهم.
رابعا….. تأثير الاستخدام المطول على مرضى الجلطات الدماغية (السكتة الدماغية)
يؤثر استخدام مواقع التواصل على مرضى الجلطات الدماغية بشكل مباشر على قدراتهم المعرفية والعاطفية التي قد تكون متضررة بالفعل.
1- المخاطر المعرفية والنفسية:
1-1- تفاقم مشاكل التركيز والإدراك: الجلطة الدماغية غالباً ما تسبب مشاكل في الذاكرة، التفكير، والانتباه، بالإضافة إلى انخفاض القدرة على التركيز عند القراءة أو مشاهدة الوسائل الإعلامية. الاستخدام المطول للشاشات يتطلب مستوى من الانتباه والمعالجة المعرفية قد يكون مرهقاً للمخ المتضرر.
1-2- الاضطرابات المزاجية والاكتئاب: يعاني العديد من مرضى الجلطات من تغيرات عاطفية غير مستقرة، واضطرابات مزاجية، والاكتئاب بعد السكتة الدماغية. الانخراط المفرط في العالم الافتراضي قد يزيد من العزلة الاجتماعية والوحدة، مما يفاقم هذه الاضطرابات.
1-3- التأثير على التأهيل: الوقت الطويل على وسائل التواصل قد يكون على حساب جلسات العلاج الطبيعي أو النطق أو الوظيفي، الضرورية لإعادة تأهيل المهارات الحركية والمعرفية المفقودة.
2- مخاطر المعلومات الطبية المضللة:
— قد يروج لـ “حيل” أو علاجات إسعافية خاطئة على مواقع التواصل (مثل وخز الأصابع لإنقاذ مصاب بجلطة)، وهو ما قد يودي بحياة المريض أو يمنعه من تلقي الرعاية الطبية الفورية واللازمة.
3-الفوائد المحتملة:
— يمكن أن تساعد في التأقلم والدعم من خلال التواصل مع أشخاص آخرين مصابين بالمرض، مما يوفر فهماً فريداً للتجربة ويساعد في التكيف مع مشاعر الحزن أو الفقد.
إن التكنولوجيا هي أداة، وقوتها تكمن في طريقة استخدامها. بالنسبة للأشخاص الذين يواجهون تحديات صحية كبيرة، يجب أن تتحول مواقع التواصل الاجتماعي من مصدر للضغوط والمقارنات والمعلومات المضللة، إلى أداة دعم واعية ومحدودة. تقع المسؤولية علينا جميعاً لتذكير هذه الفئات بأهمية وضع حدود زمنية صارمة، والتفريق بين الدعم الحقيقي ووهم المثالية الرقمية. إن استبدال ساعات التصفح الطويلة بالنشاط البدني أو التواصل الواقعي ليس مجرد رفاهية، بل هو خطوة حاسمة نحو التعافي والحفاظ على أغلى ما يملكون: الصحة الجسدية والنفسية.
