قصة قصيرة
بقلم د.نادي شلقامي
كانت الذكريات مثل أوراق الخريف المتساقطة، جميلة لكنها تحمل شعورًا بالزوال. حازم، الشاب الذي غادر بلاده بحثًا عن مستقبل أفضل، لم يستطع أن ينسى ناهد، حب حياته. كان الفراق قسريًا، ليس بخيار منهما، بل بظروف الحياة التي ألقت به في قارة أخرى. حاولت ناهد التواصل، لكن الأيام جرت بعيدًا، وتغيرت أرقام الهواتف، وتلاشت العناوين. بقى حازم يحمل في قلبه صورة وعهدًا، وبقيت ناهد تبحث عن أثر له في كل وجه عابر. مرّت السنوات، وذاق كلاهما مرارة الغياب، حتى تحول يوم الحب، الفلانتين، من عيد لهما إلى ذكرى مؤلمة.
في مساء يوم الرابع من شهر نوفمبر.. بينما كان حازم يجلس وحيدًا في شقته الصغيرة، يفكر في ناهد وفي غيابها الطويل، شعر برغبة جامحة في أن يفعل شيئًا، أي شيء، يكسر به حاجز الصمت والبعد. لم يكن يعلم أين هي، أو كيف حالها، لكنه قرر أن يرسل رسالة إلى المجهول، رسالة تحمل جزءًا من روحه وعشقه القديم.
كتب حازم على إحدى منصات التواصل الاجتماعي، رسالة مقتضبة لكنها صادقة، اختار لها عنوانًا غامضًا يعرفه كلاهما فقط، وختمها بجملة واحدة: “أين أنتِ يا قلب الحاء؟” قاصدًا حرف اسم حبيبته (حرف النون في اسم ناهد، ولكن كانا يستخدمان “ح” كحرف مشترك للعشق بينهما). لم تكن الرسالة موجهة لأي شخص بعينه، بل كانت مجرد فضفضة قلب متعب.
في نفس اللحظة، كانت ناهد تتصفح هاتفها بكسل، تحاول أن تتجاهل بهجة الفلانتين التي تؤذيها هذا العام ككل عام. فجأة، توقفت أنظارها عند منشور غريب. عنوانه مألوف على نحو محير، ثم الجملة الأخيرة: “أين أنتِ يا قلب الحاء؟”. تجمد الدم في عروقها. “قلب الحاء”… لم يكن يناديها أحد بهذا الاختصار العاطفي سواه. قرأت اسم الحساب، لم يكن حازم، بل اسم مستعار، لكن الأسلوب، الكلمات، الشعور خلف الرسالة، كان يصرخ باسمه.
بقلب ينبض بجنون، ضغطت ناهد على ملفه الشخصي، ورأت صورًا قديمة لهما، كان قد أعاد نشرها حديثًا. كانت المعجزة قد حدثت. أسرعت بكتابة رسالة مباشرة، لم تكتب اسمًا، بل كتبت نفس العبارة التي كانت تتبادلانها كسر بينهما في الماضي: “لقد انتظرتُ صدى صوتك…”
في اللحظة التي تلقى فيها حازم الرسالة، شعر وكأن الزمن قد عاد به، وأن المسافة قد انكمشت. رأى الكلمات، الكلمات الخاصة بهما، فجأة أدرك أن العثور عليها لم يكن مجرد صدفة، بل قدر أخير تدخّل في يوم الحب. تبادلا الأحاديث الطويلة حتى بزوغ الفجر، حكيا سنوات الغياب المريرة، وكيف أن حبهما لم يمت رغم كل شيء.
لم يستغرق الأمر وقتًا طويلاً. حازم، الذي كان قد أسس عمله ونجح في الخارج، حجز أول رحلة عودة إلى الوطن. كانت العودة هذه المرة دائمة، مدفوعة بلهفة اللقاء. كان اللقاء الأول بعد الغياب مزيجًا من الدموع والضحكات، واكتشاف أن الروح التي غادرت لم تتغير. لم يترددا، فالحب الذي تحدى البعد والزمن كان يستحق الحياة. بعد أشهر قليلة، وقفا سويًا تحت مظلة الوفاء، وتزوجت ناهد حازمًا، وبدآ يكتبان فصلًا جديدًا في قصة حبهما الأبدية.
تحول يوم الفلانتين، الذي كان يحمل ألم الذكرى، إلى تاريخ جديد ومشرق في حياة حازم وناهد. كانت رسالة حازم الإلكترونية إلى المجهول هي خيط النور الذي قاد ناهد إليه. أثبتت قصتهما أن الحب الحقيقي لا يموت، بل ينتظر الفرصة المناسبة ليشتعل من جديد. عاش حازم وناهد معًا، يشكران القدر الذي جمعهما مرة أخرى، مؤمنين بأن البعد ما هو إلا اختبار لمدى صدق المشاعر، وأن الحب الصادق هو الرسالة الوحيدة التي يمكنها عبور القارات واختراق حجب الزمان.
