بقلم السيد عيد
استيقظتُ صباحًا على صوت المنبّه يصرخ وكأنه يطالب بزيادة في الراتب مقابل المعاناة اليومية التي يقدّمها لي. مددت يدي وأنا أتمتم: “يا رب يكون صوت التلاجة… مش وقّتها خالص يا منبّه.” لكن الحياة كعادتها تصرّ على بدء يومك بما يشبه الصفعة الأخلاقية. وقبل أن أغسل وجهي، لاحظت الكارثة الكبرى: عقلي غير موجود. اختفى. هرب بخفة لصّ محترف، ولم يترك وراءه سوى ورقة صغيرة كتب عليها: “مش راجع إلا لما ترتاح… أو تعقل. والاحتمالين بعيد.”
العلاقات… المصيدة التي تلتهم نصف العقل وتترك نصفه الآخر في مستشفى العباسية .
هل جربت أن تحب فعلًا… أو أن تتزوج بحب؟
التجربتان بكل الضوء الذي فيهما تدخل إليهما بعقل كامل، ثم تكتشف أن نصفه اختفى في طريقه لترتيب مشاعرك.
يظل نصف عقلك الآخر جالسًا في ركن هادئ من كافيه فخم ، يحتسي قهوة وقلبك يحتسي نسكافيه ويسألك:
“هترجع لوحدك؟ ولا أبعِت لك دعمًا نفسيًا؟”
في الحب والزواج تصبح كلمة “عامل إيه؟” سؤالًا لقياس مستوى السلام،
و“تمام” جملة تحتاج ترجمة فورية، أما “مافيش حاجة” فهي وفق قوانين الكون جرس إنذار يجب التعامل معه باحترام.
ولأن العقل يعرف حدوده… فهو غالبًا أول من ينسحب،
ويتركك تتفاوض مع قلب يعمل بدافع الودّ، والنية الطيبة، والرغبة في استمرار الحياة مع من تحب .
وهي أمور عظيمة… لكنّها تحتاج صبرًا واتزانًا أكثر من حاجتها إلى المنطق المجرد.
تذهب إلى العمل فتجد نفسك داخل مسرحية عبثية كتبتها الحياة وهي في مزاج سيئ: المدير يتحدث بحماسة عن “خطة الربع القادم” وكأنه يخطب في الأمم المتحدة، وأنت تفكر في أكلة فسيخ ورنجا.
الزملاء يتظاهرون بالانشغال، بينما هم في الواقع يناقشون عبر الجروب أفضل وصفة لصينية مكرونة بشاميل يوم الجمعة. أما الاجتماعات… فهي دورة التعذيب الرسمية التي تنتهي دائمًا بعبارة: “نأجلها لبكرة.”
وفي هذا الجو… العقل لا يهرب فقط، بل يترك استقالة مختومة بختم النسر: “اعذروني… فاضلي صبر.”
السوشيال ميديا… حفلة تنكّر كبرى يرتدي فيها الجميع أقنعة الحكمة
ويكتب لك أحدهم: “كن ممتنًا لكل لحظة.”
فتنظر للرسالة وتقول في نفسك:
“ممتن إيه يا عم… ده أنا أصلاً مش لاقي لحظة أتنفّس فيها!
ممتن لمين؟ ولإيه؟
للسبعة مرات غفوة؟
ولا للشراب اللي بيستخبّى مني كل صباح؟
ولا لظهري اللي بيزن كل ما أنحني؟
يا راجل… لحظة إيه يا اللي تنشك؟
ده لو في لحظات حلوة عندي كنت طلّعتها في العلن مثلكم ”
فتبتسم وأنت ممتن أنك مازلت حيًا بعد 7 مرات غفوة و3 مرات انهيار بسيط في الثبات الانفعالي. وعلى فكرة… العقل هنا يبلغ حدوده القصوى قبل أن يطلب اللجوء السياسي لبلد أخرى.
الحياة تحب أن تمارس معك الغشومية بأشكال مبتكرة. فجأة تجد نفسك تقول: “حد يريحني من نفسي.”
تتظاهر بالقوة طوال اليوم، وتنهار ليلًا أمام فكرة بسيطة مثل: “هكتب ايه اليوم ؟”
تفكر في الأسعار، في المستقبل، في المسؤوليات… فتجد عقلك يهمس لك برقة ساخرة: “أنا مش فاضيلك… تنشك حلّ مشاكلك مع نفسك.”
الحياة لا تريدك حكيمًا… تريدك قادرًا على الضحك. اضحك، حتى لو ضحكة مجروحة. فالضحك ليس علاجًا… لكنه يخدع العقل ليظن أن كل شيء تحت السيطرة. واحذر… خلي بالك من عقلك.
لأنه إن هرب نهائيًا، ستكتشف أنك ستضطر للتعامل مع نفسك… وهي شخصية صعبة، متقلّبة، وأحيانًا بلا ضمان.
ومع ذلك… وسط هذا الجنون هناك بهجة صغيرة، وضوء خفيف، وحقيقة مضحكة جدًا:
نحن جميعًا مجانين… لكننا نتفنن في التخفي.
ولعل هذا بشكل أو بآخر هو سر استمرار الحياة.
