بقلم السيد عيد
لفت انتباهي إشعارٌ في الهاتف يقول:
“عليك إفراغ بعض المساحة لامتلاء الذاكرة، ما قد يؤدي لتوقّف بعض البرامج.”
ابتسمتُ بسخريةٍ مريرة، وقلت لنفسي: يا سلام! كأنَّ الهاتف فهم اللعبة أكثر منّا.
نحن الذين نحمل في صدورنا ذاكرةً امتلأت منذ زمن، وتعمل رغم ذلك بنظامٍ مُهترئ، وكأنها تستجدي “تحديثًا” لا يأتي.
ماذا لو امتلكنا زرًّا بسيطًا مثل ذلك الذي في الهاتف:
مسح الذاكرة غير الضرورية؟
لكن ما نحمله ليس ملفات، بل وجوهًا عَبَرَت حياتنا وبقيت آثارها، ومواقف انتهت لكن ندوبها ما زالت تشتغل في الخلفية، كبرنامجٍ قديمٍ لا نعرف كيف نغلقه.
هناك ذكرياتٌ تشبه صورًا ضبابية لا نرى فيها إلا الألم، ومع ذلك نُصرّ على الاحتفاظ بها.
وهناك مشاعرٌ مؤذية نتركها تتكاثر فينا حتى تصبح مثل “ملفات مؤقتة” تلتهم المساحة دون فائدة.
وما أكثر العادات السيئة التي نحتفظ بها، كأنها تطبيقاتٌ بلا استخدام، لكنها تسرق منّا الوقت والراحة والصحة.
أما الضغائن… فهذه وحدها قادرة على تعطيل الروح كما يعطّل الفيروس جهازًا كاملًا.
الهاتف يعطينا فرصةً سهلة:إفراغ القليل لنضمن استمرار العمل.لكن النفس تحتاج إلى شجاعة كي تتخفف، تحتاج إلى قرار، تحتاج إلى لحظة صدق نقول فيها:
لقد امتلأت الذاكرة… وحان الوقت للحذف.
أن تنظف داخلك لا يعني أن تتنازل أو تنسى أو تتجاهل، بل يعني أن تختار ما يستحق أن يبقى، وما يجب أن يُمحى كي تواصل الحياة دون تعثّر.
يعني أن تمنح نفسك مساحةً للتنفس، وللحاضر، ولأحلامٍ جديدة لم تجد مكانًا بعد.
ربما يجب أن نعامل قلوبنا كما نعامل هواتفنا: نراجع ما يُثقِلها
نُغلق ما لم نعد بحاجة إليه، نُعيد تشغيلها من حين لآخر
ونترك فيها مساحةً للدهشة، للفرح، وللأشياء التي تُنعش الروح
أليس تنظيف دواخلنا أولى من تنظيف هواتفنا؟
بل هو فرضٌ يومي…فالهاتف إن تعطّل نشتري غيره،
أما نحن فلا نسخة بديلة لنا.
