د.نادي شلقامي
مرّ عام على الحدث الذي هزّ موازين القوى الإقليمية والدولية: سقوط نظام بشار الأسد وتفكك هياكل الدولة القديمة. لم يكن هذا مجرد تبديل للسلطة، بل كان انفجاراً لصندوق “باندورا” السوري، حيث انطلقت منه آمال عريضة بالحرية والعدالة، ومخاوف أعمق من الفوضى، والصراع على السلطة، وتفاقم الأزمات الإنسانية. هذا التقرير التفصيلي يغوص في تحليل الآثار المعقدة للعام الأول من المرحلة الانتقالية، مُقسِّماً النتائج إلى إيجابيات بدأت تظهر، وسلبيات وتحديات جمة، ومخاوف استراتيجية تُهدد مستقبل الدولة السورية.
أولا…. مسار الانهيار وتأسيس الشرعية الانتقالية
1- مراحل السقوط الرئيسية:
1-1- الإرهاق العسكري والاقتصادي:
تدهور شامل في قدرة النظام على إدارة الأزمة والاحتفاظ بولاءات داخلية حاسمة.
1-2- انسحاب الدعم الحيوي:
تراجع النفوذ الإيراني أو الروسي أو تحول استراتيجي في موقفهم، مما أفرغ النظام من غطائه الأمني الخارجي الحاسم.
1-3- السيطرة على دمشق:
تحقيق اختراق عسكري وسياسي نوعي أدى إلى سيطرة قوى المعارضة المُوحَّدة على المراكز الحيوية وهروب القيادة العليا.
2- تشكيل الهيئة الحاكمة الجديدة:
2-1- المجلس الانتقالي:
الإعلان عن “هيئة مدنية-عسكرية انتقالية” مُعترف بها دولياً وإقليمياً، وتضم تكنوقراط وممثلين عن الفصائل والمكونات الرئيسية.
2-2- خارطة طريق الأمن:
البدء الفوري في عملية توحيد الفصائل تحت قيادة جيش وطني واحد، وتفكيك الميليشيات.
2-3- إعادة هيكلة القانون:
إلغاء القوانين القمعية، وتشكيل لجان لتقصي الحقائق والبدء في ملفات العدالة الانتقالية.
ثانيا…. الإيجابيات والنتائج الإيجابية الملموسة
1- التحسن الأمني والإنساني:
1-1-توقف القصف الجوي:
إنهاء شامل لعمليات القصف المدمرة التي كانت تستهدف المدن والبلدات، مما أنقذ آلاف الأرواح.
1-2- تدفق المساعدات:
تسهيل دخول المساعدات الإنسانية والإغاثية إلى جميع المناطق، وتخفيف قيود الوصول بشكل كبير.
1-3- بدء عودة النازحين:
تزايد أعداد العائدين طوعياً إلى المناطق التي استقرت نسبياً، نتيجة لزوال الخطر الأمني المباشر.
2- العدالة والشفافية الأولية:
2-1- إطلاق سراح المعتقلين:
تحرير عدد كبير من السجناء السياسيين، كبادرة أولية نحو طي صفحة القمع.
2-2- الاعتراف بالضحايا:
اعتراف السلطة الانتقالية بحجم الجرائم المرتكبة والبدء في توثيق الانتهاكات والبحث عن المفقودين.
2-3- الاعتراف الدولي واسع النطاق:
اكتساب الشرعية الانتقالية اعترافاً أممياً وإقليمياً، مما يفتح الباب أمام تمويل إعادة الإعمار.
ثالثا…. السلبيات والتحديات المُعيقة (أثقال المرحلة الانتقالية)
1- التحدي الاقتصادي المدمر:
1-1- الانهيار الكلي للبنية التحتية:
تدمير هائل للمشافي، محطات الكهرباء، وشبكات المياه، مما يتطلب تريليونات الدولارات لإعادة الإعمار.
1-2- تفاقم الأزمة المعيشية:
ارتفاع قياسي في معدلات البطالة والتضخم. الاعتماد شبه الكلي على المساعدات الخارجية.
2- فشل توحيد السلاح والفراغ الأمني:
2-1- تقسيم النفوذ المسلح:
فشل السلطة الانتقالية في دمج جميع الفصائل بالكامل، مما أدى إلى ظهور جيوب أمنية وميليشيات متناحرة تسيطر على نقاط اقتصادية وموارد.
2-2- صراع على الشرعية المحلية:
تنافس بين القوى المحلية المدعومة إقليمياً على السيطرة الإدارية والأمنية في المحافظات المختلفة.
3- الجمود في العدالة الانتقالية:
— التضحية بالعدالة من أجل الاستقرار: الضغط الدولي والإقليمي على السلطة الانتقالية لتأجيل المحاسبة الحقيقية لكبار مجرمي الحرب، خوفاً من إثارة حرب أهلية جديدة، مما يُسبب إحباطاً شعبياً.
4- التدخل والتوغل الإسرائيلي المباشر:
يمثل التوغل الإسرائيلي بعد السقوط مباشرة أكبر تهديد لسيادة الدولة السورية الجديدة.
أهداف التدخل الإسرائيلي:
4-1- القضاء على النفوذ الإيراني ومحور المقاومة: تدمير البنية التحتية اللوجستية التي تربط إيران وحزب الله عبر الأراضي السورية.
4-2- تصفير القدرات العسكرية السورية: تدمير الأسلحة الاستراتيجية، بما في ذلك القوات الجوية والدفاع الجوي والأسطول البحري، لمنع قيام جيش سوري موحد وقوي مستقبلاً.
4-3- فرض منطقة أمنية عازلة: إنشاء منطقة خالية من السلاح في الجنوب السوري، وخرق اتفاق فض الاشتباك 1974، للسيطرة على الأراضي وضمان “أمن الجبهة الشمالية”.
إجراءات إسرائيلية بعد السقوط:
أ- الغزو والتوغل البري: السيطرة على المنطقة العازلة المنزوعة السلاح بالكامل، والتوغل لاحتلال مواقع استراتيجية مثل أجزاء من جبل الشيخ، مما يضع دمشق تحت مرمى المدفعية المباشر.
ب- حملة التدمير الجوية الواسعة: شنّ مئات الغارات الجوية (تفيد تقارير بتجاوزها 480 غارة) استهدفت قواعد عسكرية، ومطارات، ومستودعات أسلحة استراتيجية، مما أدى إلى تدمير ما يقدر بـ 70-80% من قدرات الجيش السوري.
ج- سياسة “فرّق تسد”: محاولة استمالة وتجنيد بعض الفئات المحلية، لا سيما في المجتمع الدرزي جنوباً، لتوظيفها كأداة لتمزيق النسيج الوطني وتقويض شرعية الحكومة الانتقالية.
رابعا….المخاوف الاستراتيجية للمستقبل القريب
1- خطر التقسيم والصراع الطائفي:
1-1- تفتيت الهوية الوطنية:
تفاقم النزعات الإثنية والطائفية في ظل غياب الدولة المركزية القوية الموحدة، وخشية الأقليات من هيمنة مكون واحد.
1-2- التدخلات الإقليمية الدائمة:
تحول سوريا إلى ساحة مفتوحة لتصفية حسابات الدول المجاورة، واستمرار دعمهم لأطراف محلية معينة.
2- عودة الإرهاب وتمدده:
— استغلال الفراغ: استغلال التنظيمات الراديكالية كـ”داعش” أو غيرها لضعف الدولة الجديدة والفراغ الأمني في المناطق النائية لإعادة بناء قواعدها وتوسيع عملياتها.
3- أزمة إعادة الإعمار والتمويل:
— الانسحاب الدولي: خوف من تراجع التزام الدول المانحة بتمويل مشاريع إعادة الإعمار الضخمة، مما يُعرقل أي تقدم اقتصادي ويُفاقم أزمة اللاجئين.
لقد أثبت العام الأول بعد سقوط الأسد أن التحدي الأكبر ليس في إسقاط النظام، بل في بناء بديل قابل للحياة. سوريا اليوم تقف عند مفترق طرق حاسم. فإما أن تنجح الهيئة الانتقالية في فرض سيطرتها الأمنية، وتوحيد جيشها، وإطلاق عملية سياسية شاملة تلبي تطلعات الشعب للعدالة والكرامة، مدعومة بضخ مالي دولي هائل؛ وإما أن تغرق البلاد في فوضى مُنظَّمة، تتحول فيها إلى مجموعة من الدويلات الصغيرة المتناحرة، تُحكَم بالبندقية والنفوذ الخارجي. إن استعادة السلام والسيادة الحقيقية يتطلب قراراً وطنياً موحداً يقضي بتقديم مصلحة سوريا على مصالح الفصائل والقوى الإقليمية، ليتمكن الشعب السوري أخيراً من قطف ثمار تضحياته الجسيمة.
