بقلم : أحمد رشدي
في زمن تتسارع فيه الخطى وتضيق المسافات ظاهرا وتتسع باطنا تبقى العشرة هي الرصيد الذي يقي الإنسان برد الوحدة وقسوة الأيام فليست العشرة مجرد لحظات من الكلام العابر ولا صورا تُلتقط وتُنسى بل هي حالة من الانتماء العميق تنسجها التفاصيل الصغيرة قبل المواقف الكبيرة وتنبت في القلب قبل أن تترسخ في الذاكرة وتشهد الأبحاث الحديثة بأن العلاقات الإنسانية ليست ترفا يزين الحياة بل هي عامل حاسم في استقرار الإنسان وصحته النفسية والجسدية وأن الروابط المتينة تسهم في رفع جودة العمر وتقليل معدلات التوتر والمرض إذ تؤكد الدراسات طويلة المدى أن الإنسان أكثر قدرة على مواجهة الأزمات حين يملك صديقا واحدا صادقا يقف إلى جانبه دون شروط ودون حسابات
والود هو الباب الأول لهذه العشرة فهو الذي يهيئ الأرض للثقة ويمنح الروح مساحة آمنة لتلقي النصيحة وتبادل المنفعة تلك المنفعة التي لا تُقاس بالمال بل بالطمأنينة التي يحسها المرء حين يعلم أنه ليس وحيدا وأن هناك من يستمع له قبل أن يحكم عليه ومن يرافقه في عزّ الفرح كما في ذروة الألم وتشير دراسات جامعة هارفارد إلى أن جودة العلاقات لا كثرتها هي المؤشر الأصدق على سعادة الإنسان وصحته وأن أثر الصداقة العميقة لا يقل عن أثر العادات الصحية بل يتجاوزه أحيانا
وفي ميزان العلم الحديث تظهر الحقيقة واضحة فالعزلة ليست مجرد حالة نفسية بل خطر صحي حقيقي يرفع احتمال الإصابة بأمراض القلب والسكري وضغط الدم ويزيد من نسب الاكتئاب والقلق حيث أثبتت مراجعات طبية واسعة أن من يملكون شبكة اجتماعية قوية يملكون فرصة أعلى للبقاء بنسبة كبيرة مقارنة بمن يعيشون وحدهم وكأن العشرة تحوّلت إلى ما يشبه اللقاح الخفي الذي يرفع مناعة القلب ويقوي عزيمته
أما الدين فقد سبق العلم في تقدير قيمة الألفة والمودة فالنصوص الإسلامية تؤكد أن المؤمن أخو المؤمن وأن الناس كالبنيان يشد بعضه بعضا وقد جعل الإسلام الصداقة بابا من أبواب الاستقامة النفسية إذ دعا إلى صحبة الصالحين ونهى عن جليس السوء الذي يفسد العقل قبل أن يفسد السلوك وفي المجتمعات العربية لا تزال بقايا تلك الألفة حيّة في عادات الزيارة والمجالس والتهنئة والمواساة وهي عادات تُسهم في حفظ نسيج المجتمع مهما تبدلت الأزمنة
ويرى خبراء النفس والاجتماع أن الإنسان يحتاج إلى نوعين من العلاقات الأولى علاقات عميقة تُشعره بالأمان والثانية شبكة أوسع من المعارف والجيران والزملاء تمنحه شعورا بالانتماء والدعم العملي وقد ثبت نجاح مبادرات مجتمعية بسيطة في مواجهة الوحدة مثل مقاعد الحوار والمشروعات التطوعية التي أعادت لآلاف الأشخاص القدرة على التواصل والاندماج وباتت نموذجا تُقلده دول كثيرة في برامج الصحة النفسية بأن العلاقات الدافئة ليست ترفا بل علاج
وتبقى الأمثلة اليومية هي الدليل الأقرب إلى القلب فالاستماع الجيد يرمم أحيانا ما لا ترممه السنوات والنصيحة الصادقة تعيد شخصا من حافة الانطفاء والعطاء البسيط قد يحرك في الإنسان ما لم تحركه الخطابات الكبيرة ووقت صغير يُهديه المرء لمن يحب قد يصنع ألفة لا تُنسى وحدود واضحة تحفظ قدر الإنسان واحترامه تجعل الصداقة أكثر توازنا وقيمة
ومع تحديات الحياة الحديثة يبقى الخطر الأكبر هو الاستبدال الدائم للعلاقات والارتماء في مساحات افتراضية تزدحم بالوجوه وتفتقر إلى العمق فلا بد من إعادة ترتيب أولويات القلب وتخصيص وقت حقيقي للأصدقاء والأهل وتخفيف أثر الشاشات على حساب اللقاءات المباشرة وتربية الأبناء على ثقافة الزيارة والدعم والمساندة وإحياء مجالس العائلة والجيرة لأنها المدرسة الأولى للعشرة
وفي النهاية تبقى العشرة مشروع حياة نتعلمه كما نتعلم القراءة وهي استثمار لا يخسر أبدا لأن ما يُبنى على الود يثمر مهما طال الزمن وما يُصنع من الألفة يحمي صاحبه من تقلبات الدنيا فالصديق الحقيقي ليس ظلا يمشي معنا فقط بل هو باب واسع للراحة وكلمة طيبة تُبقي الإنسان واقفا مهما اشتدت الرياح،
وهو الدرس الذي تؤكده العلوم ويثبته الدين وتردده الخبرة الإنسانية كل يوم.
