اعترافات حذاء متقاعد

بقلم / السيد عيد
لا تسألني من أكون… فالحذاء، مثلي، يُحكم عليه بالسعر لا بالاسم. في يوم من الأيام، كنتُ “فورمال إيطالي”، يقف أمامي التاريخ بحذائي اللامع، وأغني الأقدام لي بتلك الرشاقة المدهشة. أما اليوم؟ مجرد قطعة جلد مهترئة، لا مكان لي سوى في زاوية الخزانة، حيث أعيش حياة الهامش بجانب فردة يتيمة. هل تعرف كيف يكون الشعور؟ أن تكون قطعة جلد عاطلة، لا أحد يعرفك إلا لأنك “مكلف”.
رافقت صاحبي في كل لحظة، من مشهد الفرح إلى مشهد الخوف، من المقابلات الرسمية إلى معارك المواصلات اليومية. كنتُ أقول له، بنعلّي الثابت: “أنا معك، ولو كان الهروب من موظف الكهرباء!” لكن حين عثر على قدمه في كل منعطف، لم يكن يلوم سوى الحذاء، وكأنني أنا من قررت أن أكون سببًا في السقوط! يا له من ظلم! كيف له أن يلومني على عثرات الأرض التي نسير عليها؟ هل أنا المسؤول عن تعب الشوارع وأحجار الأرصفة؟!
في بداياتي، كنت النجم الاول في فاترينة العرض، كأني صخرةٌ في وسط المحيط. الأضواء تتسلط عليّ، والأعين تتجمع، والكل يردد:
“شايف الخياطة؟ هذا هو الحذاء الذي سيغير حياتي!”
ولكن مع مرور الزمن، أصبحت مجرد جثة هامدة، مدفونة في صندوق قديم، معبّأة بذكريات تصدأ مثل حواف الجزم.
ذات ليلة، اجتمعنا جميعًا في قبو مظلم نحن أحذية هذا الوطن وتساءلنا بصوت واحد: “هل لنا في الحياة معنى بعد الاعتزال؟”
قالت جزمة عسكرية:
“كنتُ أدهس الأعداء في الحروب… واليوم أُدهس تحت السلّم “
أما شبشب الحمام فابتسم وقال:
“كنتُ في حضن البخار… واليوم في عذاب البرد على الشرفة!”
ضحكتُ، وأنا الحذاء الرسمي، قائلاً:
“رحم الله أيام البروتوكولات، والحوارات مع الشخصياتالعامة!”
ورغم سخريتي، جاءتني الحقيقة مثلما تجيء الحجرات الصغيرة في الزمان:
لا شيء يبقى، وكل نعل له خلع. لا تُغرّك ظلال الأحذية اللامعة، فكلها ستنتهي تحت سرير قديم، أو في ركن مظلم، تمحى ذاكرته كما يُمحى رصيد الهاتف بعد أيام من الاستخدام.
وأنت، أيها الذي تمشي فوق البساط المفرود، تذكر أن البساط يومًا ما سيطوى، وستخطفك الأيام كما تسرق الرياح الأمل من وجه المسافر.
أما نحن، فنظل نحتفظ ببصمات الطريق، نتذكر أن الجميع قد مشى فوقنا، ولكنهم لا يلتفتون لما تركوه وراءهم. نحن فقط من نعرف الحقيقة:
في زمن تتلألأ فيه النعال أكثر من الضمائر، لا تفرح إذا كانت قدماك على الطريق. ففي يومٍ ما، قد تجد نفسك موضوعًا في صندوق قديم، .. لا وزن له ولا قيمة.
الأحذية لا نُقاس بالمودة، بل بالمقاس.
ولا تحظى بالتقدير، بل بالاستخدام.
فإذا أردت أن تُحَب لك وزن وقيمة، كن نافعًا. وإذا أردت أن تُحترم حتى بعد تقاعدك… فابحث لك عن مهنة غير “احتواء الأقدام”!