بقلم السيد عيد
القهوة البلدي يا سادة مش مجرد مكان بنقعد فيه، دي وطن صغير متكوّن من ركنين خشب، وشوية دخان، وكوبايات عمرها سابت البريق لكنها ما سابتش الحكايات.
تدخل القهوة كأنك داخل فيلم بالأبيض والأسود… بس ريحة البن هي البطل، وصوت عبوده هو الراوي:
– “واحد قهوة مظبوط للباشا!”
عبوده ده مش قهوجي، ده “مايسترو الأرواح المتعبة”، بيحرك المعلقة في الفنجان كأنه بيقود أوركسترا الحياة…
كل تقليبة فيها نغمة، وكل وش قهوة بيحكي قصة.
وش القهوة عنده أحيانًا هادي زي بحر رايق في عزّ المغرب، وأحيانًا هائج كأنه قلب واحد مديون للحياة ولسه بيحاول يضحك.
القهوة نفسها عاملة زي حضن الزمن…
تحتضن العاطل والتعبان والعاشق والفاقد، وتوزّع الطبطبة مع كل “رشفة” صغيرة.
الكراسي القديمة تتنفس من تعب الجالسين، والطاولات تشهد على أسرار عمرها ما خرجت من الباب.
وكل كباية شاي، كأنها خطاب حب مفقود، مرسل من القلب إلى القلب من غير عنوان.
هناك في الركن، يجلس عم سيد، عيونه شاخصة في اللاشيء، كأنه بيكلم ماضيه.
وعند الباب، شاب بيضحك بصوت عالي، ضحكته زي شمس الصبح اللي بتحاول تدخل من بين دخان السجاير.
والقهوة نفسها تتنفس… آه والله، كأنها كائن حي، تسمع وتضحك وتئن، لكنها ما تبوحش.
عبوده لما يمسك الصاج، يحركه بخفة فيها حكمة السنين…
كأنه ساحر بينفخ الروح في البن، ويحوّل الحبوب البنية الصغيرة إلى “مزاج” يسند القلب.
يسألك:
– “على مزاجك يا كبير؟”
تبتسم وترد:
– “زي ما أنت شايف يا عبوده.”
وكأن عبوده شايف اللي جوه نفسك قبل ما تقول.
القهوة البلدي دي مش بس مكان للجلوس، دي معبد بسيط يتعبد فيه المصريون بطريقتهم الخاصة…
يصلّوا بصمت، ويتأملوا في وش القهوة، ويدعوا في سرّهم إن اليوم يعدّي من غير وجع.
كل فنجان هناك شاهد على صبر شعب، وعلى قلوب لسه بتعرف تضحك رغم المرّ.
ويا سلام على آخر الليل لما تهدأ الدنيا، وتفضل أنت وعبوده والقهوة.
تسمع غلاية الميه بتغلي كأنها نبض قلب الحارة، وتشوف بخار القهوة بيطلع لفوق كأنه حلم بيروح للسماء…
تحس إنك في عالم بين الحقيقة والحلم، بين البن والوجدان، بين الصمت والونس.
فيا عبوده…
خلّي القهوة دايمًا سخنة، والضحكة دايمًا جاهزة.
يمكن الدنيا تبرد، والناس تتغير،
لكن “قهوة بلدي” هتفضل دايمًا المكان الوحيد اللي بيقدّم “دفء مجاني”…
مع وشّ قهوة بيحكي إن لسه في أمل.
