بقلم السيد عيد
يولد الإنسان وفي داخله حنينٌ غامض لا يعرف له اسمًا، كأنّ أول صرخة يطلقها لحظة خروجه إلى الدنيا ليست احتجاجًا على الألم، بل سؤالًا يبحث عن صاحبه: أين ذلك الحنان الذي جاءت منه روحي؟ ومن أين يبدأ الطريق إليه؟ يمضي العمر والناس تفتّش عن الله في الأماكن التي تتوهّم أنها تحويه: في حجارة المعابد، في أصوات الأذان، في الكتب المرهونة بتأويل البشر. ينظرون نحو السماء كأنهم ينتظرون أن تنفرج الغيوم ليطلّ عليهم وجهٌ نوراني، غافلين عن أنّ خالق السماء لا يحتاج إلى علوّ ولا يحدّه فضاء.
الله ليس صورة تُعلّق على جدار الذاكرة، ولا ظلًّا نطارده في المدى؛ هو الوجود الذي لا وجود لشيء بدونه، النور الذي لو غاب لحظةً لعادت الأكوان إلى صمت العدم. هو المعنى الذي يسبق الكلمات، والسرّ الذي تسكن به الأرواح، والواحد الذي لا يتجزأ في جهة أو مكان. لا تصل إليه بالخطوات ولا تدركه العيون؛ فالبصر لا يحيط إلا بما هو محدود، والله أعظم من أن يُحدّ وأرقى من أن يُشَبَّه.
فلماذا لا نراه إذن؟ لأننا ننظر خارجه قبل أن ننظر داخله. نتعلّق بما حولنا وننسى أن أول باب إليه هو النفس التي نحملها، والقلب الذي إن صفا رأى، وإن ضلّ عَمِيَ. الله لا يختبئ في السماء ولا يغيب خلف المجرّات؛ إنما يحجبنا عنه ضجيج أفكارنا وتعلّقنا بما يلمع خارجنا.
متى هدأ الداخل انكشفت الحقيقة المطموسة: أن الله أقرب إلى الإنسان من الفكرة التي تخطر في ذهنه، ومن الدمعة التي تهرب من عينه. كلّ نبضةٍ تنقذك من اليأس دليل، وكلّ بصيص نور يتسلل إلى قلبك في لحظة انكسار رسالة، وكلّ معنى يهبط عليك فجأة بلا سبب أثرٌ من ألطافه يذكّرك بأنه معك وإن لم تلتفت إليه. وحين تسأل: متى أراه؟ فالجواب ليس زمنًا، بل استعداد. ترى أثره في الأشياء حين تراها لأول مرة بعيونٍ مختلفة: في وجه رضيع يضحك بلا خوف، في فراشة تحطّ على غصن ميت، في جنازة تُذكّرك بأن الدنيا عبور، أو في معجزةٍ صغيرة تحدث في حياتك دون أن تدري كيف جاءت. عندها تدرك أن الوجود كتابٌ واسع، كلّ صفحة فيه مكتوبة بيدٍ واحدة، وأنك حين تتفكّر فأنت تقرأ هذا الكتاب كما أراد لك أن تقرأه. الإلهام الذي يزور قلبك فجأة ليس صدفة؛ إنه نفحة من تلك الروح التي نُفخت فيك يوم خُلقت، وحين تحوّل هذا الإلهام إلى عمل فأنت لا تخلق من عدم، بل تواصل فعل الخلق الذي بدأه الله فيك. الليل الذي يثقل روحك ليس ظلمة، بل حضانة للمعنى الذي لم ينضج بعد، والصبح الذي تنتظره ليس شروق الشمس بل انكشاف الوعي في داخلك.
عندها تعرف أنّ الليل لم يكن عدوّك، بل ستارًا رقيقًا يخفي عنك البصائر حتى يحين وقت ظهورها. وحين تنقشع الحجب ستهمس بدهشة من وجد بعد طول غياب: يا رب… أنت لم تغب يومًا، إنما كنتُ أنا الغائب عنك.
