ثمن التقاء الحضارتين: لقاء عظيم وخطأ فادح

بقلم: جمال حشاد
في الثامن من نوفمبر عام 1519م، دوّى صدى لقاء نادر بين حضارتين من أقوى ما عرفه التاريخ: إمبراطورية الأزتيك العريقة التي سادت وسط المكسيك، والإمبراطورية الإسبانية الناهضة التي مدت نفوذها في كل اتجاه. كان اللقاء في بدايته مشهداً عظيماً ينبض بالدهشة والانبهار، لكنه سرعان ما تحوّل إلى خطأ تاريخي فادح، دفع الأزتيك ثمنه باهظًا.
مدينة تتنفس السحر
حين وطئت أقدام المستكشف الإسباني “هيرنان كورتيس” أرض الأزتيك، بدا له المشهد كأنه ضربٌ من الخيال. بحيرة زرقاء تمتد في بهاء، تتلألأ تحت أشعة الشمس، وعلى ضفافها تنتظم البيوت الصغيرة في شوارع ضيقة تنتهي عند معابد شاهقة. وسط الأفق، ارتفع هرم ضخم بُني من الحجارة، يبلغ ارتفاعه خمسين متراً، يعتليه معبدان أحدهما بلون أحمر زاهر، والآخر بلون أزرق داكن، في تناسق جمالي لا يُصدّق. المدينة، بتصميمها وتنظيمها وأسواقها، أذهلت الإسبان، وجعلتهم يدركون أنهم أمام حضارة لا تقل شأنًا عن حضارات أوروبا.
سكان المدينة، الذين قُدّر عددهم بنحو مئتي ألف نسمة، كانوا يعيشون على صيد الحيوانات وجمع النباتات، لكنهم شيّدوا من واقعهم المتقشف حضارة مبهرة لا تدلّ أبدًا على ضعف أو بدائية، بل على عبقرية كامنة في قلب الأرض.
امتزاج أم اصطدام؟
بدا التقاء الحضارتين في البداية وعدًا لحياة جديدة، مزجت بين المعرفة الأوروبية وروح الأرض الأمريكية، لكن خلف ستار الإعجاب، كانت النوايا الاستعمارية تُحاك في الخفاء. سرعان ما اعتقل كورتيس ملك الأزتيك “مونتيزوما”، في خطوة عنيفة أنهت سحر اللقاء وأطلقت شرارة الانهيار. لم يكن الأمر مجرد غزو أرض، بل سحقٌ لروح حضارة كاملة، بكل ما فيها من علم وطقوس وأساطير ووجدان.
درس التاريخ
ما حدث لم يكن مجرد واقعة عابرة في دفتر الزمان، بل مثالٌ حيّ على أن اللقاء بين حضارتين لا يكون بالضرورة تكاملًا، بل قد يتحوّل إلى صراع وجود. لقد دُوّنت تلك اللحظة في التاريخ كتحوّل جذري في مصير شعب، كأنها سؤال مفتوح حول ثمن الانفتاح غير المشروط، والثقة المفرطة في الغريب، وغياب الحذر أمام من يبتسم وهو يخبئ السلاح خلف ظهره.
وهكذا، ظلّ الثامن من نوفمبر شاهدًا على مفارقة عجيبة: لقاء بدأ بالعظمة وانتهى بالخذلان.. اندماجٌ أنتج ولادة جديدة، لكن على أنقاض حضارة عظيمة دفعت ثمن انفتاحها، فصار التاريخ يُسجل:
ثمن التقاء الحضارتين: لقاء عظيم… وخطأ فادح.