قطارات عبر الرمال: كيف وحدت السكك الحديدية الشرق الأوسط في الماضي

جوزيف كولاسانتو – ترجمة: د. إيمان بشير ابوكبدة
الشرق الأوسط، أرض آسرةٌ ومُعذبة، موضوع يومي للتقارير الصحفية من جميع أنحاء العالم. ولكن من بين المواضيع العديدة التي تغطى، غالبًا ما يُغفَل أحد عناصره الرئيسية: القطار. لطالما كان ركيزةً أساسيةً من ركائز المنطقة، وأصبح جزءًا لا يتجزأ من نسيجها الهش – غراء التوازنات غير المستقرة عبر تاريخها الجيوسياسي والتجاري والعسكري والإقليمي، بل وحتى الأدبي.
ذات مرة، كانت هناك خطوط سكك حديدية في الشرق الأوسط
“نقلت 800 رأس ماعز من بيروت إلى رياق. كانت رحلتي الأخيرة”، يقول أسعد، سائق القطار الذي قاد آخر قطار من بيروت وسط روائح أشجار الأكاسيا والزيتون، متجهًا إلى دمشق. كان ذلك عام 1976، بداية حرب أهلية أخرى اجتاحت لبنان لخمسة عشر عامًا. مع اندلاع الصراع، تركت السكك الحديدية اللبنانية في حالة تدهور. بعد عام 2011، عانت السكك الحديدية السورية من المصير نفسه، واستعادت الصحراء تدريجيًا خطوطها.
النسخة الإيطالية
قاطرات بخارية فخمة وعربات سكك حديدية تتهاوى الآن، تصدأ في ساحات منسية على مسارات طميّة عبرت الشرق الأوسط في الماضي – خلف كثبان رملية، وأشجار أوكالبتوس، ومآذن، ورجال عمائم، ورائحة اليانسون. كانت هذه أراض قسِمت بفعل حروبٍ حرضت الجار على جاره، مزّقت مجتمعاتٍ عاشت عبر المعابر والتواصل والتبادل. تشهد السكك الحديدية، وهي استعارة للشرق الأوسط نفسه، على ما كان يمكن أن يكون. إنها تتحدث عن أمجادٍ قديمة وحنين، وعن روابط مفقودة، وعن وسيلةٍ لم توحد الشعوب والبلدان فحسب، بل جسدت أيضًا هوية متكاملة – وسيلةً لجمع المجتمعات الشامية والعربية والأرمنية والمسيحية والأرثوذكسية والموارنة والسنية، وعن جهودٍ خياليةٍ لإعادة الحياة إلى تلك القطارات والمحطات.
في حلب، على درب أجاثا كريستي
بدأت أجاثا كريستي كتابة روايتها الأدبية الرائعة “جريمة في قطار الشرق السريع” وهي تحتسي الشاي على شرفة الغرفة 203 في فندق بارون الشهير بحلب. كان فندق بارون، الذي دمر جزئيًا الآن، رمزًا للعصر الجميل. وقد أسر هذا الفندق المسافرين والكتاب على حد سواء، وجذب التجار والجواسيس، بمن فيهم تي إي لورنس، الذي لم يكن معروفًا آنذاك – والذي عرف لاحقًا باسم لورنس العرب – عام 1914.
منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، انتقل المسافرون والبضائع بالقطار بين بيروت ودمشق، ومن بغداد إلى مكة المكرمة. في عام 1883، وصل قطار الشرق السريع، برحلته الرسمية الأولى من باريس إلى إسطنبول، إلى الشرق الأوسط الذي كان لا يزال غريبًا، بعواصم أوروبا الكبرى. ازدهر قطار الشرق السريع – الذي سرعان ما لُقب بملك القطارات – خلال العصر الذهبي، جامعًا بين السفر والفخامة. كان ينطلق من محطة غار دو ليست في باريس، متجهًا إلى محطة سيركجي في إسطنبول. ثم امتد شرقًا كقطار طوروس السريع، ليصل إلى بغداد عبر بيروت وحلب على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، وكركوك عبر سكة حديد ضيقة، مُكملًا رحلته الأسطورية في سبعة أيام فقط.
التاريخ الغريب لمدينة كوباني
لتعزيز تحالفها السياسي والعسكري مع الدولة العثمانية، خططت الإمبراطورية الألمانية بقيادة القيصر فيلهلم الثاني لخط سكة حديد برلين-بغداد عبر إسطنبول وحلب والموصل. في هذا السياق، تبرز قصة مدينة كوباني التي اشتهرت المدينة الواقعة على الحدود التركية السورية بمحطة قطاراتها. وارتبطت ارتباطًا وثيقًا بمشروع السكة الحديد لدرجة أنها سميت – وفقًا لبعض الروايات – تيمنًا بالشركة الألمانية التي بنت الخط، والتي ربما كانت “الشركة” أو “كوبان”، والتي استخدمت سككًا من صنع شركة كروب تعود إلى عام 1903.
أول قطار دمشق-بيروت
انطلق أول قطار على خط دمشق – بيروت في 3 أغسطس 1895. ونظراً للتداعيات السياسية والاقتصادية والعسكرية المترتبة على السيطرة على السكك الحديدية، تنافست فرنسا وإنجلترا بشراسة على تصميم الخط.
كانت محطة رياق، التي افتتحت في العام نفسه في سهل البقاع اللبناني، أكبر ورشة للسكك الحديدية العثمانية في الشرق الأوسط. في ذروتها، شغّلت 2500 عامل، وفقًا لإلياس معلوف، مؤلف كتاب “لبنان على سكة الحديد”.
في أوائل القرن العشرين، أصبح خط بيروت-دمشق جزءًا من خط سكة حديد الحجاز العثماني، الذي استمر جنوبًا عبر الأردن الحالي إلى المدينة المنورة.
محطة خط سكة حديد الحجاز (متحف العقبة)
في عمّان، افتُتحت محطة السكة الحديد العثمانية عام 1919، وبنيت على طول خط الحجاز لربط شبه الجزيرة العربية بالبحر الأبيض المتوسط، مما قلص مدة السفر من 50 يومًا إلى خمسة أيام فقط. اتبع الخط إلى حد كبير طريق الحج القديم من دمشق إلى مكة. ومع مرور الوقت، تحوّل دوره إلى دور عسكري بالدرجة الأولى. وكان له أهمية سياسية ودينية بالغة لدى الإمبراطورية العثمانية، إذ كان رمزًا لمقاومة التدخل الأوروبي.
يعتبر مشروع سكة حديد الحجاز أكثر المشاريع غير الأوروبية طموحًا في القرن التاسع عشر، وقد انطوى على تحديات هندسية هائلة. بُني هذا الخط الضيق (1050 مم) في الغالب على يد الجيش التركي، وكان يمر عبر تضاريس صحراوية من كثبان رملية ووديان صخرية، مما استلزم بناء حوالي 2000 جسر ومعبر. كما واجه المشروع عمليات تخريب متكررة من قبل البدو، الذين كانوا ينهبون عوارض السكك الحديدية الخشبية لاستخدامها كحطب للتدفئة. بدأ البناء في دمشق عام 1900، ووصل أول قطار إلى المدينة المنورة – على بعد 1322 كيلومترًا – في 22 أغسطس 1908.
خلال الحرب العالمية الأولى، جعلت الأهمية الاستراتيجية للخط منها هدفًا. وشهدت ثورة البدو، هجماتٍ وتخريبًا أضعفت قبضة العثمانيين على المنطقة.
تم إعادة تمثيل كمين القطار الدرامي الذي ظهر في فيلم لورنس العرب عام 1962، من إخراج ديفيد لين وبطولة بيتر أوتول، مرتين أسبوعيًا من قبل شركة إحياء التراث الأردنية في صحراء وادي رم لآلاف السياح.
محطة وادي رم والقاطرة اليابانية
بهدف تعزيز العلاقات مع الإمبراطورية الألمانية، أهدى الإمبراطور الياباني القاطرة إلى القيصر فيلهلم الثاني. ومع ذلك، ومع تغير معايير السكك الحديدية الأوروبية، جعل تصميم القاطرة الضيق من استخدامها في أوروبا أمراً عتيقاً. فبدلاً من تفكيكها، أرسلتها ألمانيا إلى حليفتها، الإمبراطورية العثمانية، التي استخدمتها في سكة حديد الحجاز.
خطوط السكك الحديدية كحدود
بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية عام 1919، استخدم جزء من طريق قطار الشرق السريع لرسم الحدود الجديدة بين سوريا وتركيا – وهو تقسيم تعسفي وغير مستقر فرضته القوى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى. ومرة أخرى، أعادت السكك الحديدية رسم حدود الشرق الأوسط: “كانت السيطرة على طرق الاتصال، واحتكار التجارة، وفي نهاية المطاف استغلال حقول النفط، هي المصالح المهيمنة التي وجهت القوى الأوروبية في تشكيل الأراضي الجديدة بعد الإمبراطورية العثمانية – حتى قبل انتهاء الحرب العالمية الأولى”.
عكس اتجاه النقل البري بالسكك الحديدية
تعد خطوط السكك الحديدية من أضعف نقاط البنية التحتية على الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط. حاليًا، تمتلك عشر دول عربية فقط (سوريا، العراق، لبنان، الأردن، المملكة العربية السعودية، مصر، تونس، الجزائر، المغرب، وموريتانيا) خطوط سكك حديدية، تغطي مجتمعةً 25,000 كيلومتر فقط – العديد منها معطل أو غير نشط. لكن التغيير قد يكون جاريًا. فالوعي البيئي، والمدن المزدحمة، والنمو السكاني المتزايد، كلها عوامل تدفع إلى إعادة النظر.
في العام الماضي، انطلق أول قطار فائق السرعة مائل من الرياض وقطع مسافة 1215 كيلومترًا شمالًا إلى القريات، بالقرب من الحدود الأردنية. وتستثمر حكومات دول الخليج وإيران عشرات المليارات لإنعاش شبكات السكك الحديدية. وبحلول عام 2040، من المتوقع أن يتضاعف طول السكك الحديدية الحالي البالغ 25 ألف كيلومتر بشكل كبير.
الطلب يتزايد بشدة. تسعى الصين، الرائدة في مجال السكك الحديدية عالية السرعة، إلى ربط آسيا بأوروبا عبر الشرق الأوسط. وتدخل تحالفات ألمانية وفرنسية وإيطالية، بما في ذلك شركة القطارات الإيطالية الفاخرة “أرسينال” بقطارها ذي الخمس نجوم، السوق. وفي لبنان، تسهم إيطاليا، من خلال مبادرة “لبيروت” التابعة لليونسكو، في ترميم محطة قطار مار مخايل التاريخية في بيروت، والتي تعود إلى عام 1894. وصرحت سفيرة إيطاليا في لبنان، نيكوليتا بومباردييه، قائلةً: “إن إعادة تطوير المحطة خطوة أخرى في ترميم النسيج الاجتماعي والاقتصادي والثقافي لبيروت”.