بقلم د.نادي شلقامي
لم تكن شركة ‘نور السماء’ مجرد كيان تجاري، بل كانت قصة صداقة وشراكة بين عادل وسالم امتدت لعقدين من الزمن. كانا يمثلان المعادلة الذهبية: عادل بعقله الهادئ في الحسابات، وسالم بجرأته الهندسية في الميدان. كان العالم التجاري يعج بالمنافسين والأعداء، لكن وجودهما معًا كان سدًا منيعًا يواجهون به تقلبات السوق. كانا يدركان جيدًا أن الثقة هي العملة الأغلى، وأن كل إنسان معرض للخطأ. وفي المقابل، كان ‘مراد’، وهو منافس قديم تآكلت روحه من الحسد، يراقب كل خطوة، باحثًا عن نقطة ضعف، زلة قدم، أو مجرد هفوة صغيرة ليتمكن من هدم هذا البناء الشاهق. إنها طبيعة الحياة التي لا ترحم: حبيبك يبلع لك الزلط، بينما عدوك ينتظر منك الخطأ، وهذا ما كاد أن يثبت صحته في صفقة ‘الميناء الجديد’.”
وفعلا في العام الأخير، بدأ “مراد” يظهر في الأفق. كان مراد منافسًا قديمًا لسالم في الجامعة، فشل في بناء شركته الخاصة ويرى أن نجاح “نور السماء” جاء على طبق من ذهب. بدأ مراد يتقرب من عادل بحجة الصداقة القديمة والبحث عن استثمار، لكن هدفه الحقيقي كان زرع بذور الشقاق.
في إحدى الصفقات الكبيرة، ارتكب سالم خطأً في تقدير تكلفة المواد الأساسية، ما كاد أن يكلف الشركة خسارة فادحة. كان الخطأ فنيًا معقدًا، ولكنه مؤلم.
عندما اكتشف عادل الأمر، شعر بضيق شديد. جلس عادل وسالم في مكتبهما، والتوتر يخيم على المكان. بدأ عادل بالحديث، لكن مراد سبقه، فكما هي عادته، كان قريبًا دائمًا.
قال مراد بنبرة سم محايدة: “عادل، هذا خطأ لا يُغتفر. لو كنت مكانك، لسألت عن الكفاءة والاحترافية. هذا تهور يا سالم، وكاد يدمر كل ما بنيتماه. الشراكة تحتاج إلى حزم، لا عواطف.” كان مراد يهدف إلى إشعال فتيل الشك والخصومة. لقد كان هنا يمثل دور العدو الذي ينتظر منه الخطأ.
نظر عادل إلى سالم، فوجد على وجهه علامات الندم والتأنيب الذاتي. تذكر عادل سنوات الكفاح المشترك، وليالي السهر، ووقوف سالم بجانبه في أزمته الصحية. تذكر أن سالم لم يتعمد الخطأ، بل كان نتيجة حماس مفرط وثقة زائدة.
أغمض عادل عينيه للحظة، ثم فتحها ونظر إلى مراد ببرود: “شكرًا لك يا مراد على النصيحة، لكن شؤون شركتنا تخصنا نحن. نحن الاثنان من يتحمل النجاح والفشل.” كانت تلك إشارة واضحة لمراد بالابتعاد.
ثم التفت عادل إلى سالم وقال بهدوء: “سالم، الخطأ وقع، والحمد لله أننا اكتشفناه قبل فوات الأوان. هذا الخطأ كلّفنا جهداً إضافياً، لكنه لن يكلفنا شراكتنا. سنقوم بتغطية هذا النقص من احتياطي الطوارئ وسنتعلم منه للمستقبل. أنت لست شخصاً غريباً، أنت شريكي وأخي. لا يمكن أن أبني قراري على خطأ عابر يرتكبه شخص أثق بمسيرته عشرين عاماً.”
شعر سالم بغصة في حلقه، ووقف يصافح عادل بحرارة. كان صمت سالم أبلغ من أي اعتذار.
في تلك اللحظة، أدرك مراد أن خطته فشلت، وأن جذور الصداقة والشراكة أعمق بكثير من أن تهزها زلة. وغادر وهو يجر أذيال خيبة أمله.
نظر عادل إلى سالم، ثم إلى مراد الذي انسحب بخطوات ثقيلة يائسة، وأدرك أن اللحظة كانت فاصلة. لم يكن الأمر يتعلق بخسارة مالية يمكن تعويضها، بل كان يتعلق بثمن الثقة وقيمة العشرة. في تلك اللحظة، لم يجد سالم مجرد شريك، بل وجد أخًا اختار أن يتغاضى عن ‘الزلطة’ التي كادت تغرق السفينة، إيماناً منه بصدق النوايا وعمق العلاقة. لقد اختار عادل الثقة فوق المصلحة الآنية، فاكتسب قوة دائمة. أما مراد، فقد غادر وبقي يراقب من بعيد، لكنه لم يجد خطأ آخر، لأن الشريكين تعلما درساً لن ينساه. أثبتت الأزمة أن أساس الشركة لم يكن الإسمنت والحديد، بل الوفاء والمساندة. وعلّم هذا الموقف عادل وسالم وكل من سمع بقصتهما، أن الحبيب الصادق يرى ندمك قبل خطئك، وأن العدو لا يرى فيك إلا الخطأ وحده.”
