علم العمران البشري وابن خلدون

مريم أحمد
في وقتٍ كانت فيه الحضارات تنهض وتنهار، ويسود الفساد المجتمعات وتكثر الأخطاء التاريخية، وُلد عبد الرحمن بن خلدون سنة 1332م بتونس، لا ليُحارب الفساد بالسيف، بل بالفكر والعلم. ومن خلال تأمّله في التاريخ الإسلامي، الذي وجده مليئًا بالأخطاء، دعا إلى ضرورة وجود علم جديد يدرس العمران البشري.
فأسّس ابن خلدون هذا العلم، الذي يُعدّ أساس علم الاجتماع الحديث. وفي مقدّمته الشهيرة، أكد أن “الإنسان مدنيٌّ بالطبع”، أي أن الإنسان بطبيعته يميل إلى العيش ضمن جماعات. ومن هنا، قسّم علم العمران إلى خمسة موضوعات رئيسية:
1. العمران البدوي
تحدث فيه عن بساطة الحياة البدوية، وكيف يعيش أهل البادية حياة قاسية لكنها مرنة، تقوم على القيم والاعتماد على النفس.
2. العمران الحضري
تناول فيه تفاصيل المجتمع الحضري، المترف، الذي يختلف تمامًا عن المجتمع البدوي، مشيرًا إلى أن الترف قد يكون بداية الانهيار.
3. الحياة الاقتصادية
أوضح أن الحضارات، حين تبلغ قمة ازدهارها الاقتصادي، قد تغفل عن عوامل السقوط. لذلك، حذّر من الإسراف ودعا إلى الاعتدال.
4. الدولة والمدنية
فرّق بين مفهوم الدولة والمدينة، سواء في المجتمعات البدوية أو الحضرية، وبيّن مراحل نشوء الدولة وتطوّرها.
5. العلوم
أكد على أهمية العلم في تطور المجتمع، واعتبره أساسًا لبقاء الحضارات وتقدّمها.
قوانين ابن خلدون في علم العمران
وضع ابن خلدون مجموعة من القوانين التي تُفسر سلوك المجتمعات وتطوّرها، من أبرزها:
«قانون العصبية
قانون الترف وسقوط الدول
قانون التطوّر
قانون المُلك والدولة
قانون العمران البدوي والحضري
قانون أهمية التاريخ
قانون التمييز بين الحق والباطل»
وقسّم هذه القوانين إلى نوعين:
١. القوانين النظرية: تهدف إلى فهم الظواهر الاجتماعية ووضع قواعد تفسيرية لها.
٢. القوانين التطبيقية: تعتمد على دراسة الوقائع التاريخية لتطبيق تلك القوانين على أرض الواقع.
المجتمع مثل الإنسان
رأى ابن خلدون أن المجتمعات تمر بمراحل تشبه حياة الإنسان:
الطفولة: حيث يبدأ المجتمع في التشكّل.
الشباب: مرحلة القوة والازدهار.
الشيخوخة: مرحلة الضعف والانهيار.
منهج ابن خلدون في دراسة الظواهر
أكد ابن خلدون أن دراسة الظواهر الاجتماعية يجب أن تعتمد على الملاحظة التاريخية والتحليل الموضوعي، لا على الأحكام المسبقة. كما رفض قبول أي ظاهرة دون نقد وتمحيص.
وهكذا، سبق ابن خلدون عصره بقرون، واضعًا أساس علم الاجتماع الذي سيُطلق عليه لاحقًا هذا الاسم في عهد أوجست كونت. لكن البداية كانت من هنا، من “علم العمران البشري”.