بقلم: أحمد رشدي
في كل لحظة صمتٍ،
حين يهدأ ضجيج الحياة،
نسمع صوتًا خافتًا ينبعث من أعماقنا،
يحدّثنا، يعاتبنا، يحاورنا،
ويقودنا أحيانًا نحو الخير وأحيانًا نحو الندم.
إنه ذلك الصوت الذي لا يسمعه أحد سوانا،
ولا يشاركه أحد في محاورته… حديث النفس.
فمن يكون هذا الصوت؟ أهو وعي الإنسان بذاته؟ أم روحه التي تُخاطبه من عالٍم غيبي؟ أم هو ضمير فُطر على الخير والحق؟
—
جاء ذكر النفس في كتاب الله كثيرًا،
وتنوّعت أوصافها بين الأمّارة بالسوء،
واللوّامة، والمطمئنة.
قال تعالى:
> “إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي”
(يوسف: 53)
وقال أيضًا:
“وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ”
(القيامة: 2)
ويرى علماء التفسير أن النفس الأمّارة تميل بطبعها إلى الشهوات والأهواء،
بينما النفس اللوّامة هي التي تعاتب صاحبها عند الخطأ، وتعيده إلى طريق الصواب،
أما المطمئنة فهي التي وجدت سكينتها في الإيمان والرضا.
وهذا الحديث الداخلي الذي نسمعه إنما هو جزء من عمل النفس اللوّامة، التي تُذكّرنا دائمًا بما فعلناه أو قصّرنا فيه.
قال الإمام القرطبي في تفسيره:
> “اللوّامة هي التي تلوم نفسها على التقصير، وتذكّر صاحبها بالخير، فهي صوت الوعي الحي في داخل الإنسان”.
—
أما علماء النفس فيرون أن هذا الصوت ناتج عن الحوار الذاتي الذي يصنعه العقل الباطن مع الإنسان.
يقول العالم سيغموند فرويد إن النفس البشرية تتكوّن من ثلاثة أقسام:
الهو، والأنا، والأنا الأعلى،
والأخير هو الذي يمثل الضمير الذي يوجه الإنسان نحو الصواب ويشعره بالذنب حين يخطئ.
وفي هذا السياق، يعتبر العلماء أن “الأنا الأعلى” هو المسؤول عن تكوين ذلك الحوار الداخلي الذي يُعرف بـ”الضمير الأخلاقي”،
وهو الذي يجعل الإنسان يتحدث مع نفسه كما لو كان أمام قاضٍ أو مصلحٍ يزن أفعاله.
ويؤكد أستاذ علم النفس بجامعة القاهرة الدكتور أحمد عبد العزيز
في حديثه لمجلة علم النفس ،
أن حديث النفس ليس مرضًا ولا اضطرابًا كما يظن البعض،
بل هو آلية عقلية طبيعية تُمكّن الإنسان من مراجعة قراراته وتصحيح سلوكه.
وأضاف أن انعدام هذا الصوت الداخلي قد يكون مؤشرًا على خلل في الضمير أو ضعف في الإحساس الأخلاقي.
—
أما الفلاسفة فقد طال بحثهم عن ماهية هذا الصوت.
قال ابن سينا في كتابه الشفاء:
> “النفس جوهر بسيط روحاني، تدرك ذاتها بذاتها، فإذا ناجت نفسها، كان ذلك دليلاً على سموّها فوق المادة”.
ويرى الفيلسوف إيمانويل كانت.. أن الضمير هو “قانون أخلاقي في داخلنا يجعلنا نحسّ بعظمة ما هو خير”، أي أن هذا الصوت ما هو إلا مرآة للخير المزروع في أصل الخلق.
وهكذا، يلتقي الفكر الإسلامي والفلسفة الإنسانية عند نقطة واحدة: أن حديث النفس دليل حياة الروح ووعيها بذاتها،
وأن الصمت الداخلي الذي يسبق الخطأ أو الندم هو أبلغ من كل المواعظ.
—
وحين يجتمع العلم مع الإيمان،
ندرك أن الصوت الذي يخاطبنا ليس مجرد تفاعل كيميائي في الدماغ،
بل هو مزيج من الضمير والعقل والروح التي أودعها الله فينا.
هو النداء الخفي الذي يذكّرنا بإنسانيتنا، ويمنحنا القدرة على التوبة بعد الذنب، والعودة بعد الندم،
والوقوف من جديد بعد السقوط.
إنه، ببساطة،
الحديث الذي يصل بين الأرض والسماء…
بين الإنسان وربه.
—
وهنا … يبقى السؤال: من المتحدث؟
الجواب ليس واحدًا،
لكنه صوت منّا وفينا،
يُذكّرنا بأننا لم نُخلق عبثًا،
وأن بداخل كل إنسان مملكة من الأصوات، أعلاها صوت النفس اللوّامة،
التي تهمس دائمًا:
“ارجع… فثمة خير ينتظرك إن استمعت إليّ.”
—
المصادر
القرآن الكريم
تفسير القرطبي، الجزء التاسع
كتاب الشفاء لابن سينا
Sigmund Freud, The Ego and the Id
حوار مع د. أحمد عبد العزيز، أستاذ علم النفس بجامعة القاهرة، مجلة علم النفس، العدد 214، 2023
