كتب.. أحمد رشدي
الإيثار ليس مجرد كلمة تُقال، بل هو نبض إنساني عميق يترجم أنبل ما في الإنسان من مشاعر العطاء والرحمة، هو أن تعطي وأنت في حاجة، وأن تبتسم في وجه من ينتظر منك الأمل، وأن تمد يدك بالعون لمن لا يملك سوى الدعاء. الإيثار هو لحظة يتجرد فيها القلب من أنانيته ليشعر بالآخر وكأنه جزء من نفسه
وقد ضرب التاريخ أروع الأمثلة في الإيثار، حين اقتسم الأنصار منازلهم وأموالهم مع المهاجرين يوم الهجرة، لم يسألوا كم سيأخذون، بل سألوا كيف يسعدون إخوتهم. وفي غزوة اليرموك، عندما كان الجرحى يتساقطون عطشًا، رفض كل منهم أن يشرب الماء قبل أن يسقي أخاه الجريح، حتى ماتوا جميعًا عطشى لكن قلوبهم امتلأت بالحب والوفاء، تلك اللحظة كانت تجسيدًا لمعنى الإيثار في أنبل صوره
وفي الحياة اليومية نرى صورًا لا تقل عظمة، كأمٍّ تسهر الليالي لأجل راحة ابنها المريض، أو شابٍّ يفضّل أن يطعم فقيرًا من طعامه، أو عاملٍ بسيط يكدّ لأجل أسرته ولا يفكر بنفسه لحظة. هؤلاء لا يملكون شهرة ولا أضواء، لكنهم أصحاب القلوب الكبيرة التي تضيء عتمة الدنيا
الإيثار ليس ضعفًا كما يظنه البعض، بل هو القوة الحقيقية التي ترفع الإنسان فوق غرائزه، وهو الإيمان العملي الذي يُظهر عمق الرحمة في النفس البشرية. فمن يؤثر غيره على نفسه يذوق لذة العطاء التي لا تُشترى، لأن الإيثار ليس تضحية فحسب، بل هو انتصار للروح على حب الذات
وفي زمنٍ كثرت فيه الماديات وقلّت القيم، صار الإيثار عملة نادرة تحتاج إلى من يحييها في القلوب. الإيثار في زمننا الحديث هو أن تنقذ قلبًا يائسًا بكلمة طيبة، وأن تمنح وقتك لمن يحتاجه، وأن تتنازل عن حقك لأجل صلح أو سلام. هو أن تعيش للآخرين دون أن تفقد نفسك، وأن تجعل العطاء أسلوب حياة لا مناسبة عابرة. فالعالم اليوم لا يحتاج مزيدًا من الأذكياء بقدر ما يحتاج مزيدًا من الأسخياء في المشاعر والإنسانية
إن الإيثار هو طريق الصفاء، ومن سار فيه وجد السكينة التي لا يمنحها مال ولا شهرة. فالعطاء الحقيقي ليس فيما تملك، بل فيما تُقدِّم من قلبك. وكل من آثر غيره بحب وإخلاص ترك في الدنيا أثرًا لا يمحوه الزمن، لأن الإيثار لا يموت، بل يُورث كما تُورث الكرامة والصدق، ويبقى سر الخلود الإنساني الذي به يسمو الإنسان إلى أسمى مراتب الوجود
المصادر
صحيح السيرة النبوية
دراسات في علم النفس الإيجابي والاجتماع الإنساني
كتاب الأخلاق في الإسلام للدكتور محمد عبد الله دراز
محاضرات مركز الأزهر العالمي للفتوى
