إبراهيم الديب يكتب “مع إدوارد سعيد”

بداية لم يكن سعيد إدوارد مجرد قارئ هاو ولا إيديولوجي مغامر، بل كان مثقفا وعالما بالمعنى التام للكلمة، درس موضوعاته بجد وعمق بل يعد ادوارد سعيد من: ابرز مفكري الثقافة المعاصرة؛ واهم من كتب عن دور المثقف ودوره بعد جرامشي و ,جوليان بندا, وسارتر, في كتابيه “صور المثقف ” والمثقف والسلطة” اما عن كتابه ” الاستشراق” الذي سنركز عليه أكثر في جولتنا معه؛ أكثر من اى كتاب آخر من مؤلفاته كتبه ؛لذي انتصر فيه لثقافة الاطراف من ثقافة المركز المتمثلة فى الثقافة الغربية التي تهيمن على عالمنا المعاصر، فقد اقتص في متن” كتابه العمدة “للشرق من الغرب، ووضع القضية الفلسطينية في أفق من حيث الاهتمام العالمي بها لم تنله في اي وقت مضى ، ويعتبر البعض أن ادوارد سعيد واحد من أبرز عشرة مفكرين في القرن العشرين ، ويعد أحد الذين طوروا فكرنا المعاصر، وخاصة الدرس النقدي والمعرفي فيما يتصل بدراسات أدب ما بعد الاستعمار، وكانت أطروحته للدكتوراه عن الرواية الملهمة لجوزيف كونراد ” قلب الظلام” بل عاد و قرأ كونراد بتوسع في كتاب الاستشراق، وفق معطيات علمية حملت زخما معرفيا متصلا .
فكك ادوارد سعيد وثقافة الذي ألقى بظلاله في هذا الخطاب على العالم ككل وليس بداخل ثقافة عالمنا العربي الإسلامي فقط أو الشرق عامة، خاصة بعد كتابه الاستشراق الذي كان شهرته المدوية ؛ سبباً في حمل كل ما خطه ادوارد سعيد بيده مترجما لأغلب لغات ليقف القارئ على إنتاج كاتب وناقد ومثقف موسوعي فذ ، وبدأت علاقة العالم به بتوسع لأهمية القضايا التي تناولها في كتابه الاستشراق الذي نال اهتماما من مثقفي الغرب والشرق لم يسبق لكتاب غيره، ويحظى بتأييد من وجهة نظر ادوارد سعيد مساءلته ونقده لأغلب كتب للمستشرقين في تمثليهم للشرق الذي اخترعوه كصوره ذهنية ثابتة وصبوه في قوالب فكرية معلبة كمنتج ؛ لا تمت هذه الصورة في الكثير منها للواقع بصلة ليعثر ادوارد سعيد بداخل هذه الصور بقليل من الشرح: تمثلات أي استعادة المثول أي “الحضور” فيصف ويقولب ويعلب الشرق بنسق ثقافي يخضع فيه الشرق لخيال المستشرق الذي يمثل: ثقافة المركز التي تنتج ثقافة الأطراف أو من خلال صور المستشرق التي يتنجها لنفسه وللشرق في نسق ذهني ثابت وكأن الشرق غير قادر على تمثيل نفسه فاتخذ ذلك الغرب سبباً وذريعة لاستعمار الشرق، الذي كلست صورته كمنتج غربي في ذهنه ليس لها علاقة بالواقع.
ارتقى ادوارد سعيد في نقد الاستشراق لمصاف السؤال العالمي خصوصاً في تناوله لقضية فلسطين التي ولد فيها والتي ارتقى بقضيتها لمدار الفكرة المقلقة داخل ثقافة الغرب بحفره تيارا فكريا تعددت بشحذه للرأي العام العالمي؛ ادوارد سعيد كان مهيأ للقيام بهذا الدور لاستيعابه النظريات الأدبية واللغات النقدية بل انفتح كل معطى متاح، ولذا وصفه صديقه الفيلسوف ميشال فوكو بالتكوين الأكاديمي الصلب وبذلك ضمن لخطابه بعدا عالمياً وبالقدر نفسه كان ذلك سببا في انتشاره.
تلقف العرب والمسلمين ومثقفي الشرق عامة كتاب الاستشراق : ووجدوا انتصارا لمظلوميتهم ثقافتهم من ثقافة الغرب التي همشتهم ، واقتصاصا من للأطراف من هيمنة المركز الأوربي باستدعاء :ثنائية الشرق والغرب، أو الطيب والشرير، أو حضارتنا وحضارتهم, أو الروح والمادة إلى آخر الثنائيات التي يهمش فيها الشرق من المركز ويقبع في منطقة التخلف والانحطاط الحضاري ، وجاء الغرب بعد تأثير وجهة نظر سعيد انه من يقبع لأول مرة في الجانب الخطأ و يمثل الجانب الشرير في روايتهم، و بدا وكأنه تخصص في إنتاج كل ما هو سيء فمثل كتاب الاستشراق صفعة قوية على وجه الثقافة ووضعها في قفص الاتهام ولعل ذلك ما كان دافعاً ؛لحسن حنفي لكتابة مؤلفه” مقدمة من في علم الاستغراب” وتحول ادوارد سعيد دون شعور منه أو تخطيط :لمفكر مسلم يدافع عن الشرق عامة ؛ضد معسكر الغرب وسرديته ، وجاء اختزال الكتاب في هذه الزاوية إجحافا للكتاب ومنهجه الذي اراد منه ادوارد سعيد :أن تكون ثمرة بحثه تصحيح الصورة الخاطئة الشرق بداخل ذهن وثقافة الغرب ،ومن أجلها كتب الاستشراق ..
جاءت مساءلة ادوارد سعيد ثقافة الغرب دفاعا عن الحضارة العربية والإسلامية يعجز عن صنعه الكثيرون وقد نال إدوارد سعيد من خصمه المفكر الاستعماري” برنارد لويس’ الكثير من الهجوم والتعسف ، متهماً له بالجهل وسوء النية، ثم تطور الخطاب إلى شكل من أشكال الاستعداء والتحريض للمؤسسة الأكاديمية ضد مؤلف الاستشراق، ولمن لا يعرف برنارد لويس ؛هو مؤلف كتاب ” الساميون وأعداء الساميين” الذي انطلق فيه من موقف عقائدي محض، مشفوعا ببعض التصورات العلمية، ولذا تكمن خطورة برنارد لويس :كونه أحد موظفي الأيديولوجيا بامتياز لعلاقته الوطيدة بالمحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية، واضطلاعه بدور حيوي في رسم خارطة جديدة لمنطقة الشرق الأوسط تضمن التفوق النوعي لإسرائيل، واحد كارهي العرب والمسلمين خاصةً وكل ما هو شرقي عامة
“ظل الاستشراق قرونا يعتقد أن أغلب ما قام به من بحوثا فكرية تمثل مشروع و نسق مسلم به يبهر من يتعاطاه، حتى جاء ادوار سعيد فأفسد عليهم مشروعهم وجعله في موقف المساءلة والاتهام وأصبح المستشرق في موقف الدفاع لأول مرّة بعد أن خلخل ادوار سعيد المشروع برمته بضرباته القوية، وأصبح عميدا أو المنظر الأول لنظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي ,بداخل حقل الثقافة العربية الإسلامية فقط ولكن بداخل الثقافة الإنسانية . هذه الكتابات التي كان يصر فيها على تصنيف نفسه: بالناقد الأدبي ولكن منتوجه كان يمثل حالة فريدة من التنظير, أو النقد الثقافي, أو رؤية عميقة للخطاب ما بعد الكولونيالي وتحرير الذهن الشرقي من صورة الشرق التي انتجها له الغرب الذي كان يرى أنه قادر على تمثيل نفسه بصفته المركز ومن ثم قادر على تمثيل غيره, في ثقافة الأطراف, والشرق من ضمنيا أحد الأطراف.
ترجمت أغلب كتابات ادوارد سعيد للعربية وتناولها المؤلف بالشرح والتفسير والقاء الضوء عليها وكانت هذه فائدة كبرى أن أطلع عليها لأني لم أقرأ له إلا كتاب الاستشراق وتغطية الاسلام والمثقف والسلطة وهذه الكتب هي التي عثرت عليها فقط أثناء بحثي عن مؤلفاته بشغف شديد في معارض الكتب التي زرتها ،ولكني عثرت أخيرا على آخر ما كتب عنه وهو سيرته الذاتية التي صدرت عن :عالم المعرفة بعنوان “ادوارد سعيد” كتبها تلميذه” تيموثي برنن” عرض فيها المؤلف بإسهاب ملقيا الضوء من زوايا جديدة على كتبه لقربه الشديد وصداقته الشخصية لإدوارد سعيد وخاصة كتابه”البدايات”والثقافة والامبريالية” وكتابة” الكاتب والنص والعالم ” نادى فيه بقراءة النص في سياقه التاريخي في علاقة جدلية ً ،والا ينتزع من سياقه ليقرأ بمعزل عنه .
يظل ادوارد سعيد إلى الآن من وجهة نظري أكبر من واقعه وأكثر من مفكر وفيلسوف، فهو سؤال كبير للثقافة الغربية، ولحال الشرق، المتمثل في صورة مقولبة أنتجها الغرب.