الأدب

الزلزال

بقلم -د. محمد منصور 

لم يبقْ إلا أن تقول الشعر!..

ما الفرق بينك وبين قيس ليلى أو جميل بثينة أو كثير عزة ؟

أليسوا كلهم من المجانين ؟! هاأنت تقف في الطريق فاغر الفاه، مشتت الخطى، زائغ النظرات.. ربماالفرق الوحيد أنهم كانوا يهيمون في صحراء ليس فيها كوارث، لا تحدها حدود ولا تنظمها إشارات مرورولا تمضي فيها السيارات مسرعة، والويل لمن لا ينتبه لوقع أقدامه أو لاتجاه سيره..

تمضي في الطريق بنصف وعي، نصف يقظة ونصف حلم.. تنظر إلى النوافذ المغلقة، تتمنى لو فتحتإحداها لتطل منها حبيبتك الغائبة لترشقك بابتسامة أو نظرة تذيب الجليد الذي تحيط به نفسك فلا تردسلاماً ولا تبعث بكلام، بل تمضي كالحالم المغيب طول الوقت .. تنتظر مالا يجئ وتضم جوانحك على أملغامض وحلم مستحيل.. تخرج الصورة من جيبك لتتأملها كلما مرت حسناء أو أطلت فاتنة لتلوم نفسك،كيف صدقت الوعد بأنها يمكن أن تنتظرك حتى تعود وكأنما لديها صك يمنع غدر الزمن، أيقنت بعد فواتالأوان أن الجمال تشد إليه الرحال ولا ينتظر أحداً ، فكيف طاوعت رغبتك في تأمين غد بعيد أضعت فيسبيله حاضراً مشرقاً . وقفت أمام الأرض الفضاء تنظر إلى تلال الأتربة وقطع الحجارة وبقايا العلبالمتناثرة، تطل من بين الركام أحذية مهترئة و حقائب بالية وبقايا أثاث مهشم. ها أنت تقف على الأطلالكما كان يفعل كل المجانين قبلك.

فما الفرق؟ أنت الملوم إذ تركتها تنتظر أن يتحقق حلم البيت الواسع والحديقة الغناء والأطفال بيضالوجوه خضر العيون كأمهم. كأن هاتفاً قد هتف بك وقتها أن ارحل لتجمع ثروة ، عساك تحقق حلمالحبيبة المنتظرة.. شجعتك بضحكة من القلب و بقسم غليظ أن تنتظر أوبتك بشرط أن تعود محملاًبالخيرات . لم تكن تعلم أن ثورات الطبيعة قادرة على تبديد حلمك ووأد حبيبتك.. وأنها ستغدر بكفيستحيل بيت الحبيبة إلى تل من رمال قبل أن يتحقق حلم البيت والحديقة والعيش الرغيد. هتف بكالشيخ حين رآك قد تسمرت مكانك ولم تواصل السير .. خرج من دكانه الصغير يسألك في دهشة وكأنماخرجت له من بين الأنقاض:

هل تبحث عن شئ يا ولدي ؟ أشرت إلى كومة التراب دون أن يسعفك لسانك بالسؤال فهرش في رأسهوهو يستحث ذاكرة عليلة.

الزلزالنعم .. ياااااااه.. مدة طويلة مضت .. اهتزت الدنيا وخر البيت على ساكنيه في غمضة عين. قبل أن يتبدد آخر شعاع للأمل استدرك كأنما تذكر شيئاً لينتشلك من قاع يأسك

أفلت الشباب والفتيات والرجال الأشداء أما العجائز والأطفال فقد دفنوا أحياء . دفع كرة الأمل إلىملعبك من جديد، فوقفت أمامه حائراً لا تدري ما تقول، ظننته يعرفك جيداً فقد استوقفك مرة وأنت تغادر المكان بعد أن أوصلت سماح إلى مدخل الشارع .. يومها أمسك بكتفك وحملق في وجهك وقال:

تبدو يا ولدي من أصل طيب فلماذا لا تأتي البيوت من أبوابها ؟

أقسمت له يومها أنك لا تريد بها سوءاً وأنك لا تريد لها إلا الخير، ثم طمأنته قائلاً:

عما قريب تسمع أنباء سارة .. لعله يتذكرك الآن ويتذكر ما كان بينكما رغم محاولاته المستميتة للتذكر

ألا تذكرني يا عم حسين ؟ .. أنا ممدوح .. تحدثنا هنا ذات مساء حين أوصلت سماح.. لم تفلح محاولاتهلتذكر ذلك الموقف وراح يستأنف حديثه رغم حثك لذاكرته..

معظم السكان تركوا منازلهم الآيلة للسقوط وفروا من المكان خوفاً من توابع قد تلحقهم بمن رحل.

*** لم تغب عن ذاكرتك مشاهد المشردين وهم يصطفون أمام مكاتب الحكومة طلباً للإيواء.. كنت تتابعالتليفزيون وكأن الأمر لايعنيك حتى بدأت الصورة تنطق بملامحها عن اسم الحي والشارع .. اخترقتالأسماء مسامعك فالتصقت بالشاشة تستحثها على النطق .. وسماح أين ذهبت ؟. دارت الكاميرا حولأناس يفترشون الأرض ويلتحفون السماء

.. صراخ هنا وهناك .. هلع .. وجوه غاضبة تلتصق بالكاميرا لتسب الحكومة وتلعن الفقر وتطالب بالمأوى.

ولكن أين سماح؟ .. وأين أمها في ذلك المشهد الفوضوي ؟ هل انهار البيت عليهما معاً ؟ ألم يقل الشيخمنذ قليل لم ينج غير الشباب صغير السن ؟ فهل تركت سماح أمها القعيدة لتنجو بنفسها في لحظةالموت ؟ لم يدر الشيخ أنه قذف إليك بمعضلة لتؤرقك، إذا كانت الأم حبيسة مقعدها ذي العجلات فهلتمكنت سماح من حملها لتهبط بها الطوابق الثلاث قبل أن ينهار البناء بمن فيه ؟ ..

ياإلهي !! ثمة أشياء تستحيل على التصور والإدراك .. أيمكن أن تكون سماح قد نجت بنفسها وتركت أمهالمو ٍت محقق ؟! طافت برأسك صور شتى عن آخر لقاء جمعكما معاً وهي تقول متضاحكة:

ستدخل أمي شقتنا قبلي .. هذا هو شرطي الوحيد .. سأخصص لها غرفة مستقلة .. هي من ستدخلناالجنة معا.. ثم داعبت يدك الممدودة بالتسليم وأردفت:

وستدخل أنت أيضاً الجنة معنا إكراماً لها.. أيكونان قد دخلا الجنة معاً وخلفا لك جحيم الحيرة والقلق؟.. ثلاث سنوات منذ غادرتها على أمل أن تتمكن من تحقيق أحلامها .. شيعتك ابتسامتها وهي تطالبكبأن تدخر كل ما يصل إلى يدك من مال حتى يمكنكما إتمام الزواج والابتعاد عن البيت الكئيب والجيرانالذين يدسون أنوفهم في كل شئ ولا يحترمون خصوصيات الناس..

كأنما كانت تقرأ صفحة الغيب من كتاب مفتوح ، فلم تكن ترتاح للبيت القديم ولا للسكنى في الحيالمزدحم .. في وقفتك أمام الأطلال قفز إلى رأسك خاطر لعين .. هززت رأسك يمنة ويسرة وكأنمالتتخلص منه .. ذلك الشاب الذي يسكن في البيت المقابل والذي كان يجري اسمه على لسانها فيسلاسة من تعود النطق به .. أبديت تأففك من وجوده الملح معهما، صورتها وهي تتبسط معه وتسألهقضاء بعض المصالح دون كلفة .. تلذذها وهي تراك غاضباً كلما لاكت اسمه في فمها .. وثورتك وأنتتفرغ جعبة مخاوفك في حجر أمها باعتبار أن الذي أوله شرط آخره نور، ثم دهشة السيدة العجوز وهيتقرر من فوق مقعدها ذي العجلات:

من؟! .. طارق ؟ .. إنه بمثابة الأخ الأصغر لسماح .. نحن من رباه منذ كان طفلاً يلهو في الحارة ويقضيحوائجنا.. ثم ضغطها على مخارج الحروف حتى لا تعود لمثلها

إنه يصغر سماح بثلاث سنوات.. ولم تعد لمثلها أبداً .. ربما كان يظهر عليك التأفف أحياناً وأنت تراهيحمل المقعد ، ثم يحمل الأم نفسها ليصطحبهما إلى الطبيب .. وكانت تضحك كثيراً وهي تضبطكمتلبساً بمدارة مخاوفك فتقول بلا اكتراث:

طارق مثل أخي تماماً .. لا تشغل تفكيرك به ، فلولا مساعدته لما تمكنت أمي من دخول المستشفى أوزيارة الطبيب .

البيت المقابل .. ها هو كما رأيته آخر مرة لم يمسسه شئ، النوافذ المغلقة على ساكنيه .. يبدو البيتخالياً من السكان ومع ذلك فالفكرة المجنونة كانت قد استبدت بك تماماً .. لايزال البيت واقفاً تطلنوافذه على الأرض الخلاء مباشرة.. لابد من الوصول إلى راحة اليقين .. تطرق الأبواب لتسأل عن طارق .. لابد أن لديه الخبر المؤكد .. هكذا حدثتك نفسك أن تتقدم من البيت المغلق .. راجعت الأسئلة قبل أنتتقدم خطوة واحدة .. ما الذي ينبغي قوله بالضبط حتى لا تبدو فضولياً ثقيل الحضور .. خطيبتي ؟.. ! لمتكن هناك خطوبة بالمعنى الذي يفهمه هؤلاء الناس .. مشروع خطوبة مؤجل لحين توفر الإمكانيات ؟ .. هل تقول حبيبتي ؟.. ! تبدو اللفظة مستهجنة قليلة الحياء في مثل تلك الأوساط الشعبية .. وقد تجرعليك مشاكل لا آخر لها.. ماذا يحسن بك أن تفعل ؟ أتظل واقفاً أمام أكوام التراب دون حراك ؟.. عدتمن جديد تستنطق الشيخ الذي ضاعت ذاكرته .. سألته عن طارق ساكن البيت المقابل .. نبش الشيخرأسه من جديد وقال بعد أن استفزه حضورك الملح:

طارق ؟ .. ساكن الطابق الثالث أليس كذلك ؟نعم .. أرجوك حاول أن تتذكر أي شئ.

انفرجت أسارير الرجل وكأنما هبط عليه نوع من الإلهام على غير انتظار:

طارق هذا ابن حلال ..لقد كـٌتب لسماح وأمها أعمار جديدة على يديه.. برق الأمل أمام عينيك كوميضخاطف .. ومضيت تنصت لكلمات الرجل بوعي ٍ كامل على حين بدأ الشيخ يحرك حبات المسبحة بلااكتراث وهز رأسه مستخلصاً للعبر

دنيا لا أمان لها .. والمكتوب ليس منه مهرب.. بدأت تضيق بمواعظ الشيخ المتلاحقة ، ورحت تستحثهقبل أن تدهمه حالة الصمت فتقضي على بارقة الأمل التي فكـت عقدة لسانه

يا والدي أرجوك قل كل ما تعرفه ..

هل أفلتت سماح وأمها من الزلزال ؟. صوب الشيخ نظراته إليك من جديد وقال:

انقطعت أخبار خطيبها حتى يئست من عودته فتزوجها طارق ورحلوا جميعاً عن الحي قبل وقوع الزلزالبشهر واحد. لم تدرك حينها .. هل دارت رأسك وحدك .. أم أن توابع الزلزال هي التي حركت الأرض تحتأقدامك..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى