عنترة وعبلة… حين تحدى الحب القيود وانتصر

سالي جابر
في أرضٍ لا يعترف أهلها إلا بالنسب واللون والسيف، وُلد حبٌّ استثنائيٌّ قاوم كل معاني الظلم، وسار عكس التيار، ورفض أن يُقهر. قصة “عنترة وعبلة” ليست مجرّد حكاية عشق، بل هي ملحمة إنسانية، تقف على حدود الشجاعة والكرامة، وتجمع بين الحب والحرب، وبين الحرف والدم. في قلب الصحراء العربية، حين كانت العبودية تحكم المصائر، ظهر عنترة بن شدّاد ليكتب قصةً عشقها التاريخ، وما زال يرويها الأدب.
عنترة بن شداد هو أحد فرسان وشعراء الجاهلية، وُلد لأبٍ شريف من قبيلة بني عبس يُدعى شدّاد، وأمّ حبشية كانت أَمَة تُدعى زبيبة. ولأنه ابن جارية، رُفض نسبه، وعاش عبدًا يُهان ويُستخدم في الأعمال الحقيرة، رغم ما يملكه من قوة وشجاعة، لكن في داخله، كان عنترة حرًّا، أبيًّا، لا يقبل الذل، فكان يتمرّد بالشعر، ويواجه الإهانة بالصبر والرجولة. لم يُسجّل التاريخ اسمه بين العبيد، بل خُلّد كفارس لا يُشق له غبار.
أما عبلة ليست ككل النساء، بل كانت تقيم في قلب عنترة، ابنة عمه، التي نشأت في بيت العز والكرامة، ورآها الناس كجوهرة القبيلة. أحبها عنترة منذ صغره، لم تكن فقط رمزًا للجمال، بل كانت النبيلة التي رأت فيه الإنسان لا العبد، والفارس لا ابن الجارية… لكنّ حبّهما كان حبًّا مستحيلًا… إذ كيف لعبدٍ أن يطلب يد سيّدة القوم؟
ـ الصعوبات التي واجهت عنترة بسبب حبه لعبلة:
* أول الحواجز كانت في أصله، فقد كان يُرفض حتى التفكير في أن يتزوّج “حرّة”.
أهل عبلة كانوا يرون في عنترة مجرد عبد، مهما علا شأنه، فكيف يسمحون له أن يصير صهرهم؟
* اشترط والدها مهرًا لا يُطاق، منها مئة ناقة من نوق الملك النعمان.
* سافر عنترة إلى اليمن والشام، قاتل وغزا وقُتل من حوله، فقط ليعود بالمهر، ويثبت أنه أهلٌ لحبها.
* كان هناك من يسعى للزواج من عبلة، مثل “عمرو بن مالك” و”النعمان بن مالك”، وكان عليه أن يُثبت أنه الأحق، لا بالسيف فقط بل بالكرامة.
ورغم كل هذه العقبات، لم يتراجع، بل كان يزداد قوة وإصرارًا، وأخرج من قلبه أعذب الشعر، يخاطب به عبلة ويبوح:
ولقد ذكرتكِ والرماحُ نواهلٌ
مني، وبيضُ الهندِ تقطرُ من دمي
فوددتُ تقبيلَ السيوفِ لأنها
لمعتْ كبارقِ ثغركِ المتبسّمِ
– من ميادين القتال إلى ميادين الشعر:
لم يكن عنترة فارسًا فحسب، بل كان شاعرًا من أعظم شعراء العرب. كتب في عبلة ما لم يُكتب في غيرها، وخلّد حبّه بها في معلقته الشهيرة. كان يُحارب في النهار، ويكتب الشعر في الليل، كأن الحب والسيف وجهان لحقيقته.
كان يقول:
أُحبكِ يا عبلة حبًا لا يُقاس
بكل ما في الأرض من نوقٍ وكأس
أُحبكِ حين أغزو ثم أرجع
وبين أضلعي صوتكِ الأنَسُ
اختلفت الروايات. بعضها يقول إن عنترة تزوّج عبلة بعد أن أثبت بطولته، وبعضها يقول إن القدر فرّق بينهما. لكن المؤكد أن حب عبلة بقي حيًّا في قلب عنترة حتى آخر رمق، وبقي اسمها يتردّد في قصائده وأشعاره حتى قُتل في إحدى المعارك.
الكرامة لا تُقاس بالنسب، بل بالفعل. عنترة كان عبدًا في نظر الناس، لكنه سيّد في الفعل والبطولة.
الحب الحقيقي لا يخضع للمجتمع ولا يقف عند القيود. لقد صمد حب عنترة لعبلة في وجه كل أنواع الرفض.
الإصرار يصنع المعجزات. لم يكن أحد يصدق أن عبدًا سيجمع مهرًا من نوق الملوك، لكنه فعل.
القوة ليست فقط في السيف، بل في الصبر والعاطفة. عنترة حارب ليُحب، لا ليتباهى.
قصة عنترة وعبلة ستبقى حية في الذاكرة العربية، لأنها ليست مجرد قصة حب، بل قصة إنسان انتصر على مجتمعه، وصنع من العشق سلاحًا، ومن الكلمة سيفًا، ومن الذلّ عرشًا. لقد أثبت عنترة أن الحبّ لا يُقهر، وأن الفارس الحقيقي لا يُولد من الرحم، بل من القلب والكرامة.