الأدب

“بلد العميان” .. مختارات من الأدب العالمي

رانيا ضيف

كتب الدكتور أحمد خالد توفيق مقالًا عن قصة “بلد العميان” لهربرت جورج ويلز، وما في القصة من إسقاطات قوية ورمزية عالية أضافت الكثير من العمق والجمال للمعنى الذي تضمنته القصة، حيث صار العمى شرطًا ليرتفع المرء من مرتبة الانحطاط ليصير مواطنًا كاملاً صالحًا!

تناولت القصة عمى البصر ولكن المقصود هو عمى البصيرة وانغلاق العقل والفكر، والسياسة التي اتبعها العميان مع الغريب المبصر هي نفسها ما نجدها في أغلب السياسات التي تدير منظومات بل ودول بشكل ممنهج ليظل الحال كما هو عليه!

“المقال”

لو لم تكن قد قرأت “بلد العميان” فإنني أرجو أن تفسح لي صدرك قليلاً..

كتبت هذه القصة عام 1904 وتحكي عن مجموعة من المهاجرين من بيرو فروا من طغيان الإسبان الذين احتلوا بلادهم، ثم حدثت انهيارات صخرية في جبال الإنديز فعزلت هؤلاء القوم في وادٍ غامض.

وقد انتشر بينهم نوع غامض من التهاب العيون أصابهم جميعًا بالعمي، وقد فسروا ذلك بانتشار الخطايا بينهم، وهكذا لم يزر أحد هؤلاء القوم ولم يغادروا واديهم قط، لكنهم ورثوا أبناءهم العمى جيلًا بعد جيل، وهنا يظهر بطل قصتنا.. نيونز.

إنه مستكشف وخبير في تسلق الجبال، تسلق جبال الإنديز مع مجموعة من البريطانيين، وفي الليل انزلقت قدمه فسقط من أعلى.. سقط مسافة شاسعة بحيث لم يعودوا يرون الوادي الذي سقط فيه ولم يعرفوا أنه وادي العميان الأسطوري.

لكن الرجل لم يمت.. لقد سقط فوق وسادة ثلجية حفظت حياته.

وعندما بدأ المشي على قدمين متألمتين رأى البيوت التي تملأ الوادي. لاحظ أن ألوانها فاقعة ومتعددة بشكل غريب ولم تكن لها نوافذ.. هنا خطر له أن من بنى هذه البيوت أعمى كخفاش!

فراح يصرخ وينادي الناس لكنهم لم ينظروا نحوه.. هنا تأكد من أنهم عميان فعلاً… إذن هذا هو بلد العميان الذي كان يسمع عنه وتذكر المقولة الشهيرة: “في بلد العميان يصير الأعور ملكًا” وهو ما يشبه قولنا “أعرج في حارة المكسحين”.

راح يشرح لهم من أين جاء.. جاء من بوجاتا حيث يبصر الناس.. هنا ظهرت مشكلة. ما معنى “يبصر”؟؟

راحوا يتحسسون وجهه ويغرسون أصابعهم في عينه.. بدت لهم عضوًا غريبًا جدًا. ولما تعثر أثناء المشي قدروا أنه ليس على ما يرام.. حواسه ضعيفة ويقول أشياء غريبة.

أخذوه لكبيرهم.. هنا يدرك أنهم يعيشون حياتهم في ظلام دامس، وبالتالي هو أكثر شخص ضعيف في هذا المجتمع.

لقد مر على العميان خمسة عشر جيلًا، وبالتالي صار عالمنا هو الأقرب إلى الأساطير.

عرف فلسفتهم العجيبة.. هناك ملائكة يسمعونها لكن لا يقدرون على لمسها (يتكلمون عن الطيور طبعًا)، والزمن يتكون من جزئين: بارد ودافئ (المعادِل الحسي لليل والنهار).. ينام المرء في الدافئ ويعمل في البارد.

لم يكن لدى “نيونز” شك في أنه بلغ المكان الذي سيكون فيه ملكًا.. سيسود هؤلاء القوم بسهولة تامة.

لكن الأمر ظل صعبًا.. إنهم يعرفون كل شيء بآذانهم.. يعرفون متى مشى على العشب أو الصخور. كانوا كذلك يستعملون أنوفهم ببراعة تامة.

راح يحكي لهم عن جمال الجبال والغروب والشمس.. هم يصغون له باسمين ولا يصدقون حرفًا. قرر أن يريهم أهمية البصر.. رأى المدعو بدرو قادمًا من بعيد فقال لهم:

“بدرو سيكون هنا حالًا.. أنتم لا تسمعونه ولا تشمون رائحته لكني أراه”.

بدا عليهم الشك وراحوا ينتظرون. ولسبب ما قرر بدرو أن يغير مساره ويبتعد!

راح يحكي لهم ما يحدث أمام المنازل لكنهم طلبوا منه أن يحكي لهم ما يحدث بداخلها.. ألست تزعم أن البصر مهم؟

حاول الهرب لكنهم لحقوا به بطريقة العميان المخيفة.. كانوا يصغون ويتشممون الهواء ويغلقون دائرة من حوله. لو ضرب عددًا منهم لاعترفوا بقوته لكن لابد أن ينام بعد هذا وعندها سوف…..

هكذا بعد الفرار ليوم كامل في البرد والجوع وجد نفسه يعود لهم ويعتذر وقال لهم:

“أعترف بأنني غير ناضج.. لا يوجد شيء اسمه البصر..”

كانوا طيبي القلب وصفحوا عنه بسرعة فقط قاموا بجلده ثم كلفوه ببعض الأعمال. وفي هذا الوقت بدأ يميل لفتاة وجدها جميلة، لكن العميان لم يكونوا يحبونها لأن وجهها حاد بلا منحنيات ناعمة وصوتها عال وأهدابها طويلة… أي أنها تخالف فكرتهم عن الجمال. لما طلب يدها لم يقبل أبوها لأنهم كانوا يعتبرونه أقل من مستوى البشر.. نوعًا من المجاذيب.. لكن الفتاة كانت تميل لنيونز فعلاً. ووجد الأب نفسه في مشكلة لذا طلب رأي الحكماء.

كان رأي الحكماء قاطعًا.. الفتى عنده شيئان غريبان منتفخان يسميهما “العينين”. جفناه يتحركان وعليهما أهداب.. وهذا العضو المريض قد أتلف مخه. لابد من إزالة هذا العضو الغريب ليسترد الفتى عقله. بالتالي يمكنه أن يتزوج الفتاة.

بالطبع ملأ الفتى الدنيا صراخًا.. لن يضحي بعينيه بأي ثمن. بعد قليل ارتمت الفتاة على صدره وبكت وهمست: “ليتك تقبل.. ليتك تقبل..!”

هكذا صار العمى شرطًا ليرتفع المرء من مرتبة الانحطاط ليصير مواطنًا كاملاً. وقد قبل نيونز أخيرًا وبدأ آخر أيامه مع حاسة البصر.. خرج ليرى العالم للمرة الأخيرة. هنا رأى الفجر يغمر الوادي بلونه الساحر. أدرك أن حياته هنا لطخة آثمة.. الأنهار والغابات والأزرق في السماء والنجوم.. كيف يفقد هذا كله من أجل فتاة.. كيف ولماذا أقنعوه أن البصر شيء لا قيمة له برغم أن هذا خطأ. اتجه إلى حاجز الجبال حيث توجد مدخنة حجرية تتجه إلى أعلى.. وقرر أن يتسلق.

عندما غربت الشمس كان بعيدًا جدًا عن بلد العميان.. نزفت كفاه وتمزقت ثيابه لكنه كان يبتسم.. رفع عينيه وراح يرمق النجوم. انتهت قصة بلد العميان.

هناك لحظة تدرك فيها أن الخطأ يسود وينتشر من حولك وفي لحظة كهذه يصير القابض على المنطق والصواب كالقابض على الجمر. تشعر بالغربة والاختلاف ولربما يعتبرونك مجنونًا أو على شيء من العته.. الأدهي أن لديك فضائل لكنهم لا يرون فيها أي قيمة.

بعد قليل تأتي اللحظة التي تقرر فيها أن تتخلى عن عينيك لتصير كالآخرين. هذه اللحظة آتية ولا ريب فلا تشك فيها.. لكن لو كنت محظوظًا لرأيت الفجر وقتها وعرفت فداحة ما ستفقده.

ملامح عن تناول العمى في الأدب العالمي والثقافات المختلفة:

لقد صوّرت ثقافات مختلفة عبر التاريخ العمى بمختلف الطرق، فعلى سبيل المثال كان العمى يعد عند اليونانيين عقابًا من الآلهة يعوّض عنهالفرد المبتلى بشكل من أشكال العبقرية الفنية. بينما نظر الأدب المسيحي-اليهودي إلى العمى على أنه عيب لا تتجلى محبة الله إلا بعلاجه؛ حيث يُرفع الحجاب عن بصر المصاب عند لمس رجل تقي أو آثار مقدّسة. وقد كان يُعتقد أن الناس المصابين بالعمى يجلبون هذه الحالة على أنفسهم في الأدب المبكر بلا استثناءات تقريبًا؛ من خلال ارتكابهم الخطيئة أو التعدّي على الآلهة، دون أن يلعبوا أبدًا الدور الوحيد في علاجها.

شخصيات كفيفة كتب عنها مؤلفون مبصرون:

إنه لمن المستحيل أن نعمم على الطريقة التي عومل بها المصابون بالعمى في الأدب بعد هذه النقطة، فهُم صُوّروا على أنهم رائعين وموهوبين وأشرار وخبيثين وجاهلين وحكماء وقليلي الحيلة وبريئين ومتعبين أيضًا، اعتمادًا على من يكتب القصة. إلا أن العمى يُعد خسارة تترك أثرًا يُتعذّر محوه من شخصية الفرد.

وحتى الروّاد في تدريب المكفوفين مثل دوروثي هاريسون يوستس قاموا بتعزيز الصور النمطية السيئة عنهم، وقد اعتاد المكفوفون برأيها على إرضاء الآخرين وعلى كونهم خنوعين ومتذمرين.

كتب الأب توماس كارول مؤسس مركز كارول للمكفوفين كتاب “العمى: ما هو، ما يفعل، وكيفية التعايش معه” في عام 1961، وقد وصف العمى على شكل 20 خسارة وعلى أنه “وفاة” الفرد المبصر.

يروي المؤلف جوناشيرو تنيزاكي في كتاب “موموكو مونوغتاري” مجددًا قصة أودا نوبوناغا وتيوتومي هيديوشي من وجهة نظر خادم أعمى، وتصوّر الشخصية على أنها تُظهر عددًا من الفضائل اليابانية التقليدية ولكنها في النهاية تقع ضحية عيوبها الإنسانية.

وتعد القصة القصيرة “بلد العميان” للكاتب هربرت جورج ويلز واحدة من أشهر القصص التي تضم شخصيات كفيفة. في القصة يجد رجل بارز نفسه في بلد انعزل عن العالم لقرون، حيث كل سكانه مصابون بالعمى كما كان أسلافهم أيضًا. ويصوّر هؤلاء الناس على أنهم مكتفون ذاتيًا من خلال تطويرهم لحواسهم الأخرى ولكنهم بالنهاية منغلقو الفكر وضيّقو الأفق لدرجة أنهم أصبحوا يعانون من الرهاب من الأجانب، وبسبب فقدانهم بصرهم فإنهم يرغبون بحرمان المسافر من بصره في قصة الركود الاستعارية هذه.

تخبر رواية “كل الضوء الذي ليس بإمكاننا رؤيته” الحاصلة على جائزة بوليتزر للكاتب أنتوني دوير قصة ماري لوري ليبلانك وهي فتاة صغيرة في العمر تصاب بالعمى بشكل كامل نتيجة إصابتها بحالة إعتام عدسة العين في سن السادسة، وتُبقي من حدة ذكائها بواسطة علب الألغاز المعقدة التي يقوم والدها بنحتها، وأيضًا من خلال الروايات المطبوعة بطريقة “بريل” للمكفوفين.

أدب لأشخاص مكفوفين وقد ساهم المكفوفون وضعيفو البصر في الأدب العام لقرون عديدة، وأفضل مثال على ذلك هو مؤلف كتاب “الفردوس المفقود” جون ميلتون، إلا أن مواد السيرة الذاتية أو المواد الخاصة بالعمى تعتبر جديدة نسبيًا. كما أن معظم الناس على معرفة بالمؤلفة هيلين كيلر التي أصيبت بالعمى والصمم، إلا أن هناك تقدمًا ملحوظًا منذ نشر أعمالها.

• كتب المؤلف الكفيف توم سوليفان عدة كتب ملهمة ومن ضمنها كتاب “لو كان بإمكانك رؤية ما أسمع” الذي يتطرق لحياته وإنجازاته.

• ناقش الكاتب جورج لويس بورغس الذي عانى من حالة خلقية سببت له العمى في منتصف عمره وضعه في العديد من كتب السيرة الذاتية وشبه السيرة الذاتية.

• كتب المؤلف ستيفن كوسيستو عن تجربته باعتباره شخصًا مصابًا بالعمى في كتاب “كوكب العميان” وفي مذكراته القادمة “التنصت: حياة بالأذن”.

• كتب المحاضر الجامعي جون هول عن إصابته بالعمى في كتاب “لمس الصخور: تجربة في العمى”.

• كتاب “الشعر المأثور” للكاتب الألماني ريتمار فون زويتر في القرن الثالث عشر الذي تضمنه كتاب “كودكس مانيس”.

• كتبت المؤلفة جورجينا كليج المصابة بالعمى منذ عمر الحادية عشر عن حياتها وعن مدى تأثرها بالمفاهيم الثقافية للعمى في كتاب “البصر غير المرئي”.

• أصيبت الكاتبة سالي هوبرت إليكسانر بالعمى في الخامسة والعشرين من عمرها حين كانت معلمة خلال السبعينيات بسبب مرض في العين، وقد كتبت ثلاثة كتب سيرة ذاتية على الأقل عن تكيّفها مع العمى.

• التحق المؤلف الفرنسي جاك لوسيران الذي فقد بصره في سن السابعة حين أصيبت عيناه بالضرر إثر اصطدامه بزاوية حادة لمكتب معلم بالمقاومة الفرنسية خلال الحرب العالمية الثانية، وقد أمضى سنة في معسكرات الاعتقال لينجو من التجربة ويؤلف عدة كتب. تتطرق سجلات “ومن ثم هناك ضوء” إلى تجاربه منذ طفولته المبكرة إلى حين تحرره من معسكر الاعتقال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى